تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


واشتعلت..مابين الحاء والباء، راء

آراء
الأثنين 23-2-2009م
حنان درويش

كنا قد تنقلنا بين مدارس عدّة خلال الفترة الماضية، لنلتقي الأطفال عبر أصبوحات خاصّة، ندين فيها العدوان الإسرائيلي الغاشم على «غزّة».

أسعدتني لقاءات الأطفال، واربكتني معاً، وذلك تهيّباً لعظمة المناسبة، ورهبة لجلالة الواقعة التي عشنا تفاصيلها المؤلمة، ساعة بساعة، وحالة بحالة، فكان الشهداء يتساقطون كما المطر، تسقي دماؤهم الأرض فيقضي الجميع دفاعاً عن الوطن. والحقيقة.. مهما قلنا، ومهما كتبنا، ومهما أطلقنا من احتجاجات، فلن نكون على مستوى الفداء الحاصل، لأنّ ما نقدّمه مجرّد كلام ومشاعر، نصبّها على الورق، ثمّ نلقيها أمام ملأ مشحون مثلنا.‏

شاركنا بندوات هنا، وندوات هناك. ألقينا قصصاً وأشعاراً بطوليّة، فيها قدوة، وفيها عبرة.. ملأنا غرف الصفوف هتافاً واستهجاناً واستنكاراً. خاطبنا الصغار بمقولات حرّكت فيهم معنى الحس القومي. ونمّت لديهم ملكة التعبير عّما يشعرون به. فعلت كما فعل غيري من الأدباء الغيورين على قدسية الدم العربي.. لكنّ الشعور بالتقصير لم يفارقني، ولم يبتعد كثيراً عن هاجسي الذي ظلّ يلومني ويسألني: -ما فائدة الكتابة؟.... ما جدوى الكلام؟.... وأجيب: -إنه أضعف الإيمان. قلبي على كفيّ كطائر مثخن بالجراح... وأنا لا أملك غيره.. وتلك هي المعضلة!..‏

جميلة. فاطمة. حسن. محمد. أسامة.. وأسماء أخرى غيبتها الشهادة. عرفنا بعضها، وبعضها الآخر لم نعرفه... بقي بعيداً عن أعين الكاميرات اللاقطة، ومتابعة الصحفيين الذين لم يسمح لهم بالاقتراب. أين نحن من عظمة أولئك الأطفال؟... أين نحن من تلك التضحيات؟... يغيب الأبطال، ويبقى إشعاعهم يقلب أوراق الضمائر على الدوام، وينافح الباطل بمواقيت الشهادة. ويزرع الرعب في قلوب تنامى الحقد لديها مثل تنامي الشوك في تربة قاحلة.‏

صغارٌ هم.. لكنّهم نبلاء.. علّموا العالم أن يكون نبيلاً وشهماً. وأن تسجّل اسماؤهم في سجل الخالدين. طويلاً حدثتهم... أحببتهم بكلّ أمومتي المشحونة بالانتظار، عساه انتظاري يورق شيئاً من أمان. كتبت لهم بمداد الروح، عساها حروفي تحط يمامات قرب رؤوسهم المحاطة بالألغام.‏

ماذا تراي أصنع بهذه القوافل من الأوجاع؟.. أسأل الجميع ذات السؤال وأمضي، فأراهم مثلي يتقلّبون فوق نار الحزن، ولا يعرفون كيف يترجم القول إلى فعل، حين أكتب عن الأطفال في فلسطين، أركض هناك قرب بياضهم، قرب سوادهم. يملؤني حفيف خطواتهم. ترقد بين ثنايا صوتي تفاصيل أصواتهم، في تلك الليالي الباردة. صنعت لهم شاياً ساخناً. راقبتهم عن كتب كيف يدسّون رؤوسهم في جيوب همومهم الثقيلة.. يابس وجهي مثل وجوههم، ناطق بالوجوم، أغسله كل يوم بملح الأمنيات. أمنيات أطفالي مالحة يا أصدقاء.‏

وأنا لا أملك إلاّ هذا القلم، هدية مشروعة جاءتني حين ولدت.. أنسج به الحكايا. وأشغل الأصابع. وأملأ الغرف الباردة أكواماً من حطب.‏

تعالوا .. ياأنتم... للأمس الدمع في عيون الصغار نرسل لهم قمصاناً للأمان، وأكياساً مملوءة بالحلوى، وسط باحة المدرسة كانوا ينشدون، فأتتهم قنبلة، فرقت جمعهم ، وحوّلت «مراييلهم» إلى أكفان.‏

- «انتبهوا.. انتبهوا» قالها القاتل ، ثمّ وجّه رصاصاته..سابعة» وثامنة وتاسعة وعاشرة .. تلقفها الفراغ المنهك مع ضحكة فاقعة.‏

في كلّ صباح تعلن فلسطين قرار ولادتها من جديد، ويعلن قلمي مناشدة حروف، تمضي احتجاجاً على «يهوذا» حين خان العهد، ولم يحفل بالبراءة تصلب فوق الصفيح، واحتجاجاً على «حكّام» خلعوا أقنعة العروبة، ووضعوا ما بين الحاء والباء.. راء.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية