|
فضائيات ليس من السهلِ في هكذا زمن, إقناع المشاهد بمنطقِ شاعرٍ أو أديبٍ أو إعلاميٍ أو سياسيٍ أو فنان أو مفكِّر, وخصوصاً إن رأينا بعض هؤلاء ينظِّرون عبرَ فضائياتٍ تحوَّلت من وسائل تثقيف وترفيه وتوجيه وتوعية, إلى فضاءاتٍ منحازة ومأجورة وناطقة بكلِّ ما يُصيب متابعها بانفصام في المتابعة والاستيعاب والشخصية.
بالرغم من كلِّ ذلك, وعندما يتعلَّق الأمر بحاجة المشاهد للخروجِ من دائرة النزيف والتشظّي والضياع التي أحاطته بها فضائياتُ الاستفزازات السياسية والانفصامات الإعلامية والبرامج الموجَّهة بطريقة لا أخلاقية, فلا شك أن أكثر ما يلفت انتباهه أو يختار متابعته, البرامج البعيدة كل البعد إلا عما يحاكي احتياجاته وأوقاته وحياته وعقليته, وسواء كان فناناً أو شاعراً أو أديباً أو مسرحياً أو حتى إنساناً عادياً يريد أن يتعرّف إلى منطقِ من يعتبرهم أصحاب عقول, يُفترض أن تكون واعية ومنطقية.. هذا ما يتيحهُ "بيت القصيد" البرنامج الذي يُعرض على قناة الميادين, ومقدمه الشاعر و الإعلامي "زاهي وهبي" وقد اختار أن يبتعد وفي العديد من حلقاته, عن كلِّ ما يستفزُّ ضيفهُ قبل مشاهدهُ, ولا لشيء إلا لأنه يُدرك عن سابقِ تجربة, بأن ما يريدهُ منه المشاهد, تعريفهُ بشخصية ضيفه. بحياتهِ وإنجازاته. أيضاً, بمواقفهِ وآرائه وباختلاف منطقها وموقفها من القضايا التي أكثرها دقة السياسية. بدايةً, وإن انطلقنا من مكان تقديم البرنامج, فإنه وكما يبدو لمشاهدهِ, أشبهُ بمغارةٍ تحت الأرض. مغارة ليست مدجَّجة بالأضواء الباهرة والديكورات الفاخرة وإنما بكلِّ ما يتعلَّق باختصاصِ الضيوف ممن يُعتبرون النخبة, ومن كافةِ أنحاء الدول العربية. حتماً, وفي مكانٍ يُعتبر "بيت القصيد" يُفترض أن تكون موسيقا البرنامج متوافقة مع موضوع الحوار, وهو ما نلاحظهُ في البرنامج الذي عوَّدتنا أجواؤهِ على معرفةِ لِمَ وكيفَ يُدار, ومن قِبلِ محاورٍ من الطبيعي ولأنه شاعر, أن تكون أسئلته, أقرب إلى استشعارِ الإحساس, الوعي, الحكمة, الثقافة, التميز, الإبداع, وبما يتطلَّب من الضيف تقديمِ المُختصر والقيِّم من الآراء والأفكار.
نعم, المختصر, فأسئلة "وهبي" بعموميتها مختصرة وهذا ما لاحظناه في الكثير من الحلقات التي ومثلما لم يسترسل فيها بأسئلته. أيضاً لم يسترسل الضيوف بأجوبتهم.. الضيوف الذين منهم مغنية الأوبرا السورية "ليندا بيطار" التي اختزلتْ إجاباتها بما جذبنا إلى ما ترنَّمت به حنجرتها. والإعلامي "جورج قرداحي" الذي تمكَّن وعبرَ القليل مما كان يجيب به, من تعريفنا بثقافته ومبادئهُ وحكمته. أيضاً, وفي الحلقة التي استضافت الفنان "دريد لحام" لم يكن يحتاج للمبالغة أو الإطالة في إطلاقِ إجاباتٍ ثاقبة الرؤية عما سُئلَ عنه فأجاب بما لم يضيِّع ملامحه وثقافته ومكانته. أما عن الحلقة الأكثر جرأة وجاذبية, فتلك التي استضافت الأديبة والباحثة "نوال السعداوي". الدكتورة التي ومثلما من الصعب استفزازها, من الصعب أيضاً إخمادها, إخماد مفرداتها الشرسة في دفاعها عن وجود صاحبتها وفي كل برنامجٍ. المفردات التي لابَّد من أن تجذب المشاهد أياً كانت اهتماماته لطالما, كانت صادقة في رسالتها, رافضة لكلِّ ما يحجب نور الوعي عن عقليتها. هكذا كانت "السعداوي" وفي حوارٍ سُئلت فيه الكثير الكثير ليكون أروع ما أجابت به ويتعلَّق بهذا الزمن الذي أحبط كل فكرٍ أو ثقافةٍ إلا فكر وثقافة الاقتتال والموت والفتن: "لدى النخبة من المنظِّرين العرب شخصيتان, لأن المجتمع, القوانين, الأخلاق, السياسة, وحتى الرجولة والأنوثة كلها مزدوجة وقد عرفتُ نساء يفكرن كالجواري".. "أؤمن بالعدل والحرية والكرامة لا بالآلهة".. "التيارات المتشدِّدة دمَّرت لبنان وتدمر مصر وليبيا وسورية, وهي خطة لتدمير المنطقة لحساب اسرائيل".. "لكي تنجح الثورة, يجب أن تواكبها ثورة أخلاقية ثقافية, فلا يمكن لنصفي الأعلى أن يكون شريفاً ونصفي الأسفل غير شريف".. هذا هو عموماً "بيت القصيد" البرنامج الذي يكاد يكون وحيداً في خوضه بموضوعاتِ الأدب والفن والثقافة والفكر والمسرح والشعر وسوى ذلك مما يترك للضيف فرصة تقديم نفسه من خلال موهبته.. يترك له فرصة إثبات قدرته على تحمِّل مسؤولية جذب وإفادةِ من يتابعوه, وبواسطة الكلمة, القصيدة, اللوحة, النغم وسوى ذلك مما عليهِ أن يبدِّد به, جمودَ البرنامج وروتين أسئلته.. |
|