تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عضات..

آراء
الأثنين 24 تشرين الثاني 2008 م
حسين عبد الكريم

- أنت فلان ابن عمّنا?

- وأنت من تكون?‏

- قريبك رجب مدير معمل...‏

وغابت بقية الكلمات بسبب سوء الاتصال...‏

عرف سلام جيداً هذا ال رجب, بعد أن ذكَّره بلقاءاتهما البعيدة, المرمية بين أكداس اللقاءات المهملة, العائلية والقرباتية, والمتعلقة بالصداقات المسبقة الصنع, والمقبلة على الأيام.‏

وفي اليوم التالي اتضح ضمير اللقاء بينهما, حين ذكر مدير المعمل للقريب:‏

والد زوجتي التقينا كثيراً في منزله الكائن قرب الساحة.. وكان شقيق زوجتي الكبير صديقاً لك.?!‏

- كلُّ هذه الأمور أعرفها عن والد زوجتك الذي كان رقيق الحاشية وطيباً ويحتمي بشيء من الحب البلدي, حين الضائقات, لكنني الآن لا أعرف عنه شيئاً بعد أن تحسنت أوضاع الذي كان صديقنا: ولده باقترابه الموفق من أحد الينابيع الغزيرة الدافقة باتجاه المقتربين والمجاورين والمعاونين..‏

في يوم آخر تواعد القريبان أن يلتقيا, لكنّ القريب المدير خذل الموعد واختبأ وراء جوع قديم, ظناً منه أن القريب قد يشاركه الجوع, ويتقاسم معه القليل من ال عضّات والنهم..‏

انقطع فجأة التواصل بينهما, كما ابتدأ فجأة بعد طول انقطاع.. في الوهلة الأولى تضايقت روح القريب, وعاتب نفسه على قبول التواصل مع الأقرباء المنشغلين بالالتهام والعضّات الموفقة والميسرة وغيرها.. لكنه في الوهلة التالية أخبر نفسه: (العزلة الصافية المتأملة مخلصة أكثر من التلاقي الملوث.. وهل يعثر واحدنا أو الكثيرون منا على تلاق ليس ملوثاً بحرائق الجوع العصري المتعفّن.. في الأيام السوداء كان الناس يجوعون, لأن الخبز قليلٌ والمسافات مقطوعة أوصالها الانسانية.. وكانت الأفواه تستخدم العض في صداقتها مع الأرغفة الصادّة للهلاك..‏

الشبع العصري الملوث زرع الجوع في النفوس, فصارت الأفواه الجائعة داخلية, والعضّات نفسية, والأرغفة لم تعد لصدّ الهلاك, ولم تعد أرغفة مشوية على حطب الاحتياج.. صارت جوعاً داخلياً وعفونة فاجرة وعّضات لا تنتهي: يعضّون أرواحهم أولاً, حتى تصاب بداء الالتهام والمرض, ثم يبدؤون بعضّ كلّ ما يتيّسر لهم: أمهاتهم.. آباؤهم, الإخوة, الأخوات, الأقرباء البعيدون والقريبون كالأخوال والأعمام والخالات والعمّات.. زمانٌ يؤلف الجوع والجوعانين ويؤلف العضّ والنهم وفنون الجشع المتعفن جداً.. والكثيرون من كائناته الإنسانية لا يقرؤون إلا مؤلفاته الجوعية, ويغدرون بمحفوظاتهم الأخرى كالألفة الطيبة ومؤلف الرضى وكتاب الشبع والقناعة..‏

وعضّةً بعد عضّة تموت في الشفتين الابتسامات وال مرحبا والتحيات وكلمات السعادة والأمنيات, وتنقلب كل ابتسامة الى حطام ابتسامة (معضوضة), وكل مرحبا تمسي مؤامرة عضٍّ, والتحيات تحتمي بأكداس الكلمات المحرومة من طفولتها السعيدة, والمسخّرة لترتيبات القضم وما ينبثق عنه وعنها...‏

أيام المدرسة الأولى درجت مفردة جائعة, لكنها بسيطة وغير متعفّنة هي (عضّوضة).. ورف الطالب في الصفوف الأولى أن رغيفاً مدهوناً بالزيت أو ما يشبه الزيت في الطريق الى فمه.. يعضّ (العضّوضة) دون نسيان محفوظات الساقية الخضراء والراعي الحذر.. وبعدها يقرأ نشيد الغيمات, ويردد ما ملكت شفتاه من (المرحبات) والتحيات للأقرباء وللجدة والجد والآنسة والجيران.. ومفردة ثانية شقيقة الأولى وأكثر دلالاً ودلعاً هي (قضامة) وكانت صديقة المحبين وسفيرة المشتاقين, وتبيع وتوزع سعادة المذاق في أفواه التالفين من اللهفة البرية, التي لا تكفيها (القضامة) بل تحتاج نثريات القبل وهمس شعر الشفتين..‏

ألا توجد مدارس خاصة بتربية الفم وجوع الانسان?? توزع حصصها الدراسية: حصة لإملاء الشبع, وحصة ثانية لجدول طرح العضّات المرضية, وحصة ثالثة لمحفوظات الألفة الطيبة والأقرباء, وحصتان رابعة وخامسة لرياضيات الأخلاق الحميمة والعلاقات غير المصابة بعفونة داء العضّ..‏

وحصة سادسة لموسيقا القناعات وحصص أخرى متفرقة لعلوم الحب وكيمياء الفم والابتسامات, وفيزياء التحيات..‏

ولا ينبغي إهمال دروس تاريخ تحالف الانسان مع شبعه.. قد يكون من الحصص الأساسية حصة السلامة العامة ودرء أخطار العضّ العصري الساري, كأصعب الأمراض.. ودرس الرسم وفنّ الخبز والأرغفة الصادّة للهلاك...‏

طلاب كثيرون رسموا الرغيف, والكروم والغيمات والساقية الخضراء والراعي والجدات, وكتبوا قرب الرغيف: الصديق الطيب, لأنه يدرأ عنهم الفاقة والتعب, وكتبوا جانب الكروم والغيمات: العشاق المؤبدون, لأنهم يتعلمون فنّ الخير المتناغم..‏

والراعي والجدات كتبوا تحت اسم كلٍّ منهم أو منهن:‏

نواطير الأماني.. ولم ينسوا أن يزينوا خصر الساقية بأغاني الراعي ونغماته العتيقة, كيلا تضيع فرحة الحب اليومية.. وزيّنوا شفاه الجدات بحكايات الانسان وصداقته القديمة مع الأرغفة..‏

وقبالة الدروس وشبابيك الحصص الدراسية تلوح للأعين كلمات التلاقي والأفق الملون بزرقته اليانعة...‏

خرج سلام من تأملاته وسطوع هجسه وأسئلته, فلاقى قدام نظراته عنواناً مديداً: (معمل تصنيع العضات..) وبعد عدة نظرات والتفاتات تراءت له عناوين مديدة ملتوية كأفعى واسعة الفكين, شقيه التمدد والمظهر: (شركة الالتهامات السريعة), (مؤسسة تجميع أنواع العضّات المستوردة والمحلية), (هيئة استثمار الجوع), (هيئة بطالة الحب), (لجنة مكافحة القرابات), (مستشفى أمراض العضّ والآفات السارية), (منتجع المصابين بداء الجشع العصري).. وعناوين وتسميات متأرجحة ومتمددة ومرمية كحاجات مؤذية في الأمكنة والجهات والأعمار والبرهات...‏

وظهر لعينيه وبصيرته زمانُ قريبه المدير رجب مرمى قمامة ومكاناً معفّراً بالحسرات وحطام التحية الفاقدة لصلاحيتها..‏

ارتدّ الى سؤال وجدانه: هل تقسّمت برهات ولحظات وأيام القريب الى عضّات وتحيات مفتقرة الى الصلاحية?!.. وفي جهات أعمار أقرباء وأصدقاء آخرين تبدّت له أرغفةٌ متفحمة وأحلام مهجورة.. قال: ما أقسى وجود الأحلام المهجورة?!‏

إنها جوع وهلاك ونهم مرعب!!‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية