تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المسكوت عنه في التقرير العربي للتنمية الثقافية

محطة
الأثنين 24 تشرين الثاني 2008 م
د. خلف الجراد

أثارت الأرقام والمؤشرات الإحصائية, التي أوردها (التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية) تعليقات وتحليلات واسعة, صبّت في منحى المقارنات مع المعطيات المتداولة مع الدول المتقدمة علمياً وثقافياً وتقنياً, والاستنتاج بأننا اليوم أمة متخلفة في ميدان العلم والثقافة والاختراعات وعدد العلماء والمتعلمين.

لقد وصف بعض الخبراء والكتّاب بأنّ الواقع العربي في هذا المجال (مفزع) و(خطير) و(كارثي) وكأن أوضاع الأمة في الجوانب الأساسية الأخرى, كالأمن القومي والتضامن, والغذاء والفقر والبطالة والصحة, وحقوق الإنسان... إلخ, أفضل حالاً, وأقرب إلى تطلعاتنا الإنسانية والحضارية والعصرية!!‏

المؤكّد أنّ كبار المسؤولين في الأمة وصانعي القرارات السيادية في أقطارنا العربية المختلفة, وشريحة من الأكاديميين والخبراء والمحللّين والباحثين المهتمين يعرفون هذه الأرقام جيداً, بل يعلمون معطيات واقعية وعيانية أكثر دقّة وخطورة و(كارثية), ليس اليوم فقط, وإنما منذ عشرات السنين, ومع ذلك فإن التراجع مستمّر في النوعية والجودة في المجالات الحضارية كافة, لكنْ يجب القول بالمقابل إن كتلتنا البشرية تتزايد بوتيرة عالية, حيث يتضاعف سكان الوطن العربي مرة كل حوالي خمسة وعشرين عاماً, وتتزايد بالموازاة أعداد الأميين والعاطلين عن العمل, والشباب التائهين, المنخرطين في الجماعات الناقمة المتطرفة, أو اللاهثين خلف سراب الأوهام والهجرة, والجنس والمخدرات, ودهاليز الضياع الكثيرة المتنامية, ومنها فضائيات الشعوذة والخرافة والدجل, والطائفية المقيتة.‏

كما أنه من المؤكد أن هذا التقرير (كما غيره) سيشكل مادة لعدد من الندوات وورشات البحث, والملتقيات الثقافية والفكرية, التي لن تضيف جديداً ولن ينتج عنها قرارات وتحولات عملية تغيّر في اتجاهاتنا المتسارعة نحو مزيد من التخلف عن ركب العالم المتقدم.‏

فمن المؤسف أننا استمرأنا الأوضاع المأسوية, وأصبحنا متعايشين مع جمود العقل, ومحاصرة الفكر الحرّ, إلى درجة أن التكفير والتهجير, وصنوف الاضطهاد, التي تواجه أصحاب الفكر المستنير والإبداع.. والاجتهاد الديني, تكاد تكون ظاهرة عربية بامتياز.‏

وبرأينا المتواضع أن المشكلة لا تكمن فقط في أن معدل الالتحاق بالتعليم لا يتجاوز في الدول العربية 21.8 بالمئة, أو أن العرب لا يترجمون أكثر من 330 كتاباً في السنة, أو أن عدد الكتب المنشورة هو 27809 كتاباً, وأن أستاذاً جامعياً لكل 24 طالباً عربياً, مقابل أستاذ جامعي لكل 8 طلاب في اليابان.. إلخ, بل إن المشكلة الكبرى هي في نوعية ما ينتجه العرب; ما الذي تتضمنه الكتب المنشورة أو المترجمة?! (على قلّتها), وماذا يتعلم طلابنا في الجامعات, ووفق أي مناهج?!, وهل لهذه المناهج علاقة مباشرة بالحياة العملية, وهل يؤهلون فعلاً للإنتاج, أم ليحصلوا على شهادة ليس لها مصداقية في العمل وسوقه التنافسية?!‏

إن استعراضاً سريعاً لعيّنة من عشرات الكتب المنشورة أو المترجمة, أو التي يقبل الناس على قراءتها وتداولها, سيبين إلى أي اتجاه تسير مجتمعاتنا, وماذا ينتظرنا في المستقبل غير البعيد, ما دام التنوير غائباً ومغيباً, ما دام الاجتهاد الديني محظوراً, والفكر السياسي النقدي محاصراً, في حين أن الفكر الغيبي والظلامي والخرافي والتجهيلي والتكفيري والطائفي.. يصول ويجول, وهو المهيمن والسائد والمدعوم بقوة مالياً وإعلامياً (مئات الفضائيات والصحف والمجلات العربية) وسياسياً وبيروقراطياً!!.‏

لقد ركز (التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية) على الأرقام والإحصاءات والمقارنات الكمية, متجاهلاً هذه المسألة المحورية والاستراتيجية, المتمثلة بالحرب الشاملة الشعواء, التي تشنّ بعنف وضراوة ضد الاستنارة والتنوير والتجديد والاجتهاد, في مقابل دعم هائل وغير مسبوق لنمط معين من القراءة و(العلم), والجمود الفكري, والفتاوى الخطيرة, والمحاسبة على النيات, وتأليب المجتمع على المفكرين الأحرار, والمجتهدين المجدّدين والمبدعين في المجالات الفكرية والمجتمعية المختلفة.‏

www.khalaf-aljarad.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية