|
ملحق ثقافي
وحقائقه الافتراضية على أنماط التعبير الثقافي. ولقد أشار العديد من هذه الدراسات إلى مدى التحول الذي أحدثته الشبكة العنكبوتية في آليات ولغة التعبيرات الثقافية المعاصرة. وكما أشار الناقد الياباني ماتشيكو كاكوتاني: لأول مرة تبدو التطورات الثقافية مرتبطة بشكل مباشر وصل حد التزامن مع التطورات التكنولوجية المتعلقة بطرق وأدوات معالجة وتبادل المعلومات على الشبكة. وشكلت هذه التزامنية في العلاقة بين الثقافي-التعبيري وبين التكنولوجي ظاهرة حفزت خيال الكثيرين ليس لرصد الواقع وتحليله فقط، بل للتنبؤ برؤى مستقبلية حول ما ستفضي إليه الثقافة الإلكترونية من واقع جديد نوعياً في حياة الإنسان الثقافية والاجتماعية. لقد كان من الواضح أن عقداً طغت فيه عادات القراءة الرقمية سيؤدي في النهاية إلى نتيجة حتمية تتجلى في تحولات كبيرة في الطريقة التي نقرأ فيها ونتواصل مع العالم الذي نعيش فيه. لقد صرح الناقد نيكولاس كار أنه لم يعد يستطيع الانغماس الطويل والعميق في القراءة كما كان الحال سابقاً قبل سيطرة النص الإلكتروني والوسائط المتعددة التي تنقل المعلومات بشكل سريع ومتزامن في دفقات متداخلة ومتشابكة يتعذر معها ممارسة فعل التركيز والتأمل في سياق زمني مستقر وغير خاضع لتداخلات الضجيج الإلكتروني الهائل على شبكة الإنترنت. إن عقولنا تتوقع الآن أن تستقبل المعلومات بطريقة مشابهة لطريقة توزيعها على الإنترنت، أي من خلال تدفق سريع لموجات متعددة ومتزامنة من النشاط الإلكتروني. وفي هذا السياق من التطور في آليات التعاطي مع المعلومات رصد الباحثون تحولات نوعية في فنون السرد بدأت تعبر عن ذاتها في أشكال وممارسات جديدة؛ حيث ظهرت خلال السنوات الأخيرة مجموعة من المصطلحات والتعابير الجديدة التي اقتحمت بشكل يبدو للكثيرين مفاجئاً قاموس النظرية السردية. وتبدو غرابة هذه المصطلحات في أنها انتقلت بشكل سريع من قاموس التكنولوجيا الرقمية وتطبيقات الكومبيوتر إلى الحقل الأدبي والنقدي الذي يعنى بدراسة ظاهرة السرد الأدبي. من هذه المصطلحات: السرد المتفرع Hyper Narrative، السرد التفاعلي Interactive Narattive، النص الإلكتروني Electronic Text وغيرها.. ويرى العديد من المختصين أن شيوع هذه التعابير وازديادها باضطراد يجعل من الملح تطوير أدوات ومنهجيات نقدية لدراسة التطورات التي حدثت في أشكال السرد المعاصر. إلا أن المشكلة المنهجية التي يواجهها المختصون في هذا السياق هي أن ما أصبح يعرف بالأشكال السردية المعاصرة ليس في حد ذاته محض ظاهرة أدبية. ذلك أن أنماط السرد والتمثيل اللغوي في الفضاء الإلكتروني على شبكة الإنترنت وفي مختلف الوسائط المتعددة تمتاز بالتنوع الكبير بحيث لا يمكن إجمالها في سياق واحد. ويرى بعض المختصين ممن يدرس الأنماط السردية الجديدة أن الوسائل الإلكترونية قد أحدثت ثورة كبيرة في علاقة الإنسان بالسرد وأن كل ما هو شائع من ممارسات في العلاقة مع النص الإلكتروني إنما يفتح أفقاً كبيراً لتطور السرد الأدبي. وفي هذا السياق، بدأت النخبة الثقافية تتعامل مع مصطلحات لم تكن مقبولة قبل عدة سنوات وأخذ النقاد بتقبل فكرة أن النص الإلكتروني قد أدى إلى تطور أنماط تعبير أدبي جديدة. ولعل أحد أهم هذه الأنماط وأكثرها تداولاً اليوم هو ما أصبح يعرف بالقصة التفاعلية Interactive Story. قدم الأمريكي هايس رويث مجموعة من الدراسات الهامة في هذا المجال ألقى فيها الضوء على هذه الظاهرة وآفاقها في سياق الثقافة المعاصرة. ونشير هنا إلى أحد دراساته التي نشرها في مجلة ستايل والتي يقدم فيها قراءة في ظاهرة القصة التفاعلية. اكتسب مصطلح القصة التفاعلية موقعه في التداول النقدي من فكرة أن التطور النوعي الذي حصل في وسائل الاتصال يقتضي تطويراً في أساليب إنتاج وتلقي السرد الأدبي. وينطلق التطوير من ضرورة تغيير موقع قارئ- متلقي القصة من مستقبل سلبي إلى مشارك فعال في إنتاج السرد، أي في عملية الكتابة ذاتها. وقد جرت دراسة أشكال التحول في موقع القارئ نحو المشاركة في إنتاج النص فتم تحديد ثلاثة أشكال من القصة التفاعلية: الشكل الأول هو القصة التفاعلية باللعب. ويعتمد هذا الشكل على مشاركة المتلقي للسرد بفعاليات وأنشطة تتقاطع مع القصة المروية أو المقروءة. والمثال النموذجي على هذا النوع هو قصص الأطفال التي تستثير خيال الطفل وتحفزه للتعبير عن قراءته الخاصة للسرد من خلال اللعب الذي يتقاطع مع ويضيف إلى المادة السردية. النوع الثاني هو القصة المتفرعة. وتقوم خصوصية هذا النوع على بنية النص الإلكتروني وإمكانيات التفرع والتزامن التي يتيحها. ففي القصة المتفرعة يتاح للقارئ إمكانية الاختيار بين عدة احتمالات لتطور السرد في مفاصل معينة من تطور حبكة القصة. وفي هذه المشاركة يتخذ القارئ موقعاً يمكنه من ممارسة قرارات تتعلق برغباته الشخصية ورؤيته الخاصة للنص السردي. النوع الثالث هو ما يسمى بالقصة الافتراضية. ويتخذ هذا النوع اسمه من مصطلح الواقع الافتراضي. وفي الحقيقة لا يتجاوز هذا النوع كونه توظيفاً لتطبيقات ألعاب الواقع الافتراضي التي تطورت بشكل كبير خلال العقد الماضي. وفي هذا النوع يدخل القارئ- المتلقي إلى القصة ويتحول إلى أحد شخصياتها فيشارك في صناعتها ويتدخل في تطور أحداثها. فهل يمكن اعتبار هذه الأشكال الجديدة أنواعاً أدبية؟! لا شك أن التطرف في تطبيق الظواهر التكنولوجية على الأدب هو في النهاية ممارسة غير علمية لن تؤدي في النهاية إلا إلى خلق حالة من الاغتراب بين القارئ المعاصر وبين الأدب الحقيقي. هناك فعلاً من يتعامل بجدية مع فكرة الأدب الإلكتروني التفاعلي ويحاول تسويق فكرة القصة الافتراضية التي يقتحمها القارئ على شاشة حاسبه الشخصي، ويتحول إلى شخصية من شخصياتها! قد تبدو الفكرة مجرد لعب، لكنها تشير بالفعل إلى التطورات التي حدثت في علاقة القارئ المعاصر باللغة عموماً. لا يمكن بالطبع تجاهل ما أحدثته التكنولوجيا الرقمية في واقع الأدب المعاصر، ولكن هل يمكن بأي حال من الأحوال التعامل مع أدبية النص خارج المعايير الجمالية؟! إن فكرة النص التفاعلي ليست جديدة بالمطلق في عالم الأدب؛ فكل الملاحم الخالدة والأساطير والملاحم الشعبية وفنون الروي وحتى العديد من منجزات الرواية الحديثة، عرفت التفاعل من خلال تعدد الأصوات وآليات التناص وتعدد الذوات الكاتبة. ولكن السرد في كل تلك الأشكال العريقة بقي ظاهرة وممارسة ذات خصوصية جمالية تنبع من كينونة النص ذاته، وليس من أي مرجعية غريبة عنه، كما هو الحال في أشكال السرد التي يتم تصنيعها تقنياً خارج أي سياق جمالي. قد تكون تطبيقات النص التفاعلي مناسبة ومفيدة في حقول علم النفس والتربية والتعليم لما تمتلكه من إمكانيات تعبيرية تتيح للفرد التعبير عن ذاته في بيئة تشاركية، لكنها من المؤكد لن تكون قادرة على إنتاج أدب يكتب التجربة الإنسانية ويؤرخ لحياة المخيلة والذاكرة. ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى الدور الحاسم الذي تلعبه شركات إنتاج وتسويق الألعاب وبرمجيات الترفيه في تحفيز المستهلك على الخلط بين الظواهر السردية التي يمكن في الحقيقة رصدها في جميع ميادين الحياة وبين الأدب الذي يمتلك خصوصية تكرست عبر تاريخ الإبداع الإنساني. من المؤكد أن هذا التاريخ لن يتغير بهذه السهولة التي يتوهمها البعض. |
|