تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


منمنمات مقامات الحريري العظمى في بطرسبورغ

ملحق ثقافي
2011/12/27
محمود شاهين: تسنى لي خلال مشاركتي في الندوة الموازية لمهرجان الفنون الإسلاميّة الأخير في مدينة الشارقة، التعرف إلى الدكتور ماهود أحمد الأستاذ السابق في كلية الفنون الجميلة بجامعة بغداد،

وأحد المؤسسين البارزين لعدة كليات للفنون وللدارسات العليا في العراق.‏

يحمل الدكتور أحمد إجازة في الفنون من بغداد عام 1961، وماجستير في الفنون التشكيليّة من معهد سوريكوف في موسكو 1968 وعلى دكتوراه في علوم الفن من كلية الدراسات النظريّة في موسكو 1979. له مجموعة من اللوحات المسنديّة والجداريّة، وقد كتب العديد من البحوث والمقالات حول الفنون. يقيم ويعمل حالياً في الأردن وقد صدر له فيه مؤخراً، كتاب حمل عنوان «منمنمات مخطوطة تنشر لأول مرة/ منمنمات ومخطوطة مقامات الحريري العظمى في بطرسبورغ» تعرض فيه لمنمنمات إحدى المخطوطات الهامة‏

التي وُضعت لمقامات الحريري الشهيرة، برؤية توثيقيّة وفنيّة لم يسبقه إليها أحد، كما لم يُنشر عنها إلا القليل، بينما نالت مخطوطة باريس للمزّوق «الواسطي» الكثير من الاهتمام، وصدرت عنها كتب ودراسات عديدة، ما جعلها معروفة ومشهورة جداً، عكس مخطوطة بطرسبورغ التي لم تحظ بأي اهتمام، على الرغم من تأثيرات منمنماتها الواضحة على فن الواسطي، إلى جانب أن منمنماتها متفوقة في قيمتها التعبيريّة، وجمالها وأصالتها، كما يشير الدكتور أحمد في مقدمة كتابه الذي بدأ تأليفه منذ مدة طويلة، لكن لم يتسنى له إكماله إلا في هذه الفترة.‏

المنمنمات والأدب‏

يرى الباحث أحمد أن المنمنمات في أوج تطورها وعظمتها الفنيّة، ارتبطت بالأدب العربي، وعلى وجه الخصوص المقامات، وذلك لميزتها الزاخرة بالمتعة التصويريّة والخيال، وبوصفها تقدم صورة ديناميكيّة، صادقة، مكتظة بالحوادث ومتنوعة للعصر العباسي الوسيط والأخير. وقد وجد فيها المزّوق العربي المسلم، مادة خصبة لمنمنماته، حيث نقل إليها مظاهر الحياة في المجتمع العربي، من عادات وتقاليد وأعراف ومشكلات وصراعات. إلى جانب ذلك، فالمقامات تمثل أحد أهم الروافد الثقافيّة لذلك العصر، وقد نشأت بوصفها فناً في أواخر العهد العباسي، ودخلت الأدب العربي على يد «بديع الزمان الهمذاني» ثم جاء الحريري فنسج على منواله فكتب خمسين مقامة اشتهرت باسمه. وعلى المنوال نفسه كتب آخرون عدداً من المقامات مثل: الزمخشري، الرازي.. وغيرهما.‏

من جانب آخر، يرى الباحث أحمد، أن الشهرة الواسعة لمقامات الحريري لا تعود فقط إلى قيمة أسلوبها الأدبي واللغوي المتميز والذي يُعتبر الآن مرجعاً كلاسيكياً للأدب العربي، وإنما إلى قدرتها على تصوير البيئة العربيّة وجرأتها في نقد ومخاطبة حياة العرب الصاخبة في وقت اتسم بانتشار الفوضى والخلافات وتضاؤل دور الخلافة العباسيّة في التأثير على مجريات الأمور في البلاد. وبالتالي، فإن شهرة مقامات الحريري، تعود أيضاً، لارتباطها بفن التصوير في المخطوطات. مجموعة المنمنمات في هذه المقامات المصوّرة، أرست بفعل قيمتها الفنيّة والجماليّة أسس ملامح مدرسة فنيّة أصيلة، عُرفت بمدرسة بغداد العربيّة في التصوير الإسلامي.‏

نسخ المخطوطات‏

يشير الباحث أحمد، إلى اثنتي عشر مخطوطة زُيّنت بالمنمنمات وصلت إلينا، وهي محفوظة اليوم في مكتبة المتحف البريطاني، والمكتبة الوطنيّة في باريس، وسليمانية استنبول، ومكتبة فيينا الشعبيّة، ومكتبة الجامعة في أكسفورد، ومعهد الدراسات الشرقيّة لشعوب آسيا التابع لأكاديميّة العلوم الروسيّة في مدينة بطرسبورغ، وعُثر مؤخراً على نسخة مصورة من المقامات في اليمن.‏

والحقيقة، وبإقرار غالبية الباحثين والدارسين، فإن المنمنمات بشكل عام، تُذهل بعبقرية تكوينها الإنشائي الفني، وحشد مجموعة الناس المتراصفين بشكل دائري وهي في ملابس تُظّهر طياتها وكأنها رقصة ألوان بهيجة، إلى جانب انسجام بقع الألوان الذي يزيد من حيويّة التفاصيل المزخرفة.‏

مخطوطة بطرسبورغ‏

ذهب اهتمام الباحثين والدارسين، إلى مخطوطة «شيفر باريس» ومنمنماتها للمزّوق الواسطي يحيى بن محمود الذي أنجزها سنة 1237، واعتبرت منمنماته قمة ما أنتجته مدرسة بغداد الفنيّة من إبداع وغنى في ذلك الوقت، ولم تحظ المخطوطات الأخرى، وعلى وجه التحديد مخطوطة المقامات المحفوظة في بطرسبورغ، بمثل هذه الدراسات، على الرغم من اعتراف أكثر الباحثين بأهميّة تصاويرها واعتبارها لا تقل من حيث قيمتها الفنيّة والجماليّة عن صور الواسطي إن لم تسبقها في أصالة عناصرها وبنائها التشكيلي وقوة تعبيرها، وهو ما حاول الدكتور ماهود أحمد تأكيده وتوضيحه، في كتابه المكرس لها. يضاف إلى ذلك، أن مخطوطة بطرسبورغ، من الآثار الفنية الأكثر قدماً، ولم يتناولها أحد من المؤرخين بدراسة تفصيلية شاملة، الأمر الذي أثار اهتمام الذين شاهدوها، بل لقد ذهب الباحث «ب. ب. دينيكا» للقول بأن صورها أهم من صور مخطوطات المقامات الأخرى على الإطلاق، وإنه لم يتم تقييم منمنماتها من ناحية الأسلوب الفني والآثاري «التاريخي والمعماري». ورجح هذا الباحث، أن تزويقها ربما تم في مصر، معتمداً في ذلك على تلك المقارنة التي أجراها مع مخطوط الإنجيل القبطي، من جهة الأسلوب الفني، وكذلك صلة العناصر والتكوينات المعماريّة المُعبّر عنها بصورة مكثفة في منمنمات مخطوطة بطرسبورغ مع ما يقابلها في عمارة مصر الفاطميّة.‏

مقومات وخصائص‏

يؤكد الباحث أحمد، أن مخطوطة بطرسبورغ مصممة بشكل جميل وجذاب، خاصة طريقة توزيع المنمنمات وحجومها، واختيار المسافات المناسبة لها، ومتابعتها للنص المكتوب، وانسجامها ووحدتها معه. تحتوي المخطوطة على 98 منمنمة، اثنتان منها رسمتا في وقت متأخر، وبأسلوب يختلف عن بقية المنمنمات التي عانت الكثير من قدم الزمن، واهتراء الأوراق وتمزقها وتساقط ألوانها السميكة، إضافة إلى الرطوبة التي عملت على التصاق الأوراق ببعضها البعض.‏

ويرى الباحث أحمد، أن أهمية المنمنمات قبل كل شيء تكمن في تداخلها الفني مع النصوص التي قدمت لها أرضيّة خصبة انطلقت منها نحو آفاق بعيدة. وفي الوقت الذي عبرت فيه عن الأفكار ودلالاتها بشكل واقعي، تندمج فيه مع الحياة، نجد أن المنمنمة تتجاوز الواقع، وتبتعد عنه، بل وتنفلت منه، غير أنها من جانب آخر، نراها تحافظ «من الخارج» على وظيفتها الإيضاحيّة فتعكس النصوص في كياناتها المرئيّة المكتظة بالتفاصيل والإضافات الخارجيّة والجوانب التكميليّة ذات الميزات الخاصة التي ترتبط بروح المقامات التي أحاطها المزوّق بالأجواء الواقعيّة، لكن مع ذلك، لم يكن هدف المنمنمات الدلالة على الجوانب التوضيحيّة، وخدمة النصوص، ذلك لأن الوسائل الأسلوبيّة المميزة لفن التصوير العربي الإسلامي، وخاصة «مدرسة بغداد» تنحو من خلال تشكيلاتها،‏

وسياجها الخارجي، وهيكليتها، ومنظورها الظاهري، في دفع المنمنمات باتجاه تطمين حاجاتنا الروحيّة والجماليّة، بشكل تتحد فيه مع الروح الإسلاميّة، وذلك باستخلاص أهم ما في التعيينات المرسومة من أحوال وأفعال داخليّة تتجسد فيها. فالمنمنمة هي بمثابة طقس، يمارسه المزوّق للوصول إلى جماليّة مقترنة بالإلهي، وهي خلاصة التفاعل بين الفكر الجمالي الإسلامي والمكونات الحسيّة ذات التشخيصات المتعينة، وهي تسقط في اللامتناهي بفعل هيكليتها المستقلة، ولها وجود حقيقي من خلال ما تقدمه ظاهرياً من معلومات عن نظامها وخطوطها وألوانها وهيكليتها وسردها، وهي بمثابة وجد صوفي يتجه صاعداً نحو الأعلى ببطانة تتشكل كجوهر سري، لمنطقة مقدسة يستوطن فيها الجمال، وتنتشر فيها الروح معلنة فرح نشوة الوصول والاتحاد مع الله، ويشد الانسجام فيها عالم الحياة وعالم الأخروية، بعضها مع بعض، فتصبح المنمنمة في الأخير صلاة حقيقيّة ترفع الروح إلى الله.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية