تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


السينما السياسية مزج الوعي السياسي بالإثارة الدراماتيكية

ملحق ثقافي
2011/12/27
محمد عبيدو: ما يزال مصطلح السينما السياسية يشغل النقاد والمفكرين منذ أوائل ستينات القرن الماضي وحتى الآن، أي منذ أن بدأت الأفلام بتناول القضايا السياسية وبازدياد نسبة الأفلام.

بدأ النقد السينمائي يطلق هذا المصطلح بشكل غامض وغير دقيق. ومن المعروف أن مصطلح السينما السياسية أصبح شائعاً في العالم كله، حيث بلغ ذروته مع فيلم «زد» الذي أخرجه كوستا غافراس المخرج اليوناني الأصل الفرنسي الجنسية - وهو من مواليد 13 شباط 1933 – وهو منذ عمله السينمائي الأول «جرائم عربة النوم» 1965 وحتى أفلامه الأخيرة برهن عن مهارة فنية عالية بإخراجه أفلام تمزج الوعي السياسي بالإثارة الدراماتيكية. وبينما وجد بعض النقاد في أعماله نوعاً من البرودة واتجاهاً نحو الدقة الحسابية ونقصاً في تطور الشخصيات فإن معظمهم ميزوا فيها سفسطة ذكية ونقاء إنسانياً مع خبرة تقنية مدهشة. لقد شعر غافراس بالراحة دوماً مع التوليف السريع والخطوة اللاهثة لكن هذا الأسلوب كان يحمل أيضاً حقائق مريرة تتعلق – كما يقول – بالأحوال الإنسانية.‏

ونادرا ما يتطرق كوستا غافراس لموضوع ما بدون تقديم رسالة جريئة، مثيرة للجدل. حتى أن رسالته السينمائية قلما تمر دون الإشارة بأصابع الاتهام إلى طرف ما.. فيلم «زد» مثلاً أخذ نظام الجنرالات العسكري الذي كان قائماً في اليونان كعمل فني. مبتدئاً بإيضاح صريح بان أي تشبيه في الفيلم للأشخاص الأحياء منهم أو الأموات إنما هو مقصود بشكل تام .. وينطلق غافراس في «زد» من إطار بوليسي وسردي يخلطه بالوثيقة في نهاية الفيلم أو بإعادة خلق الأحداث أحياناً أخرى لإدانة الحكم العسكري الديكتاتوري الذي كان قائماً في اليونان، والإشادة بالقوى التقدمية ونضالاتها. صور الفيلم بالجزائر وبطولة الفرنسي إيف مونتان واليونانية إيرين باباس. ووضع له الموسيقى التصويرية الموسيقار اليوناني الشهير «ميكيس ثيودوراكس» مؤلف موسيقى فيلم زوربا. وفاز بجائزة الأوسكار كأفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية.‏

«حالة حصار» 1972 فيلم، قام ببطولته إيف مونتان، يقوم إلى حد كبير على أساس اختطاف وتنفيذ حكم الإعدام بمستشار البوليس دان ميتريون عام 1970 على يد منظمة يسارية في الأوروغواي اسمها «التوباماروس» مركزاً بهذا على تداخل أحداث اللعبة بين الأسر والأسير.. وكان الفيلم مثيراً للجدل بما فيه الكفاية لكي يتم سحبه من قبل معهد السينما الأمريكية من عروض مهرجان 1973 التي افتتحت لتدشين مسرح مركز كندي التابع للمعهد ذاته في واشنطن.‏

فيلم «المفقود» 1982 ارتكز على قصة حقيقية لاختفاء صحفي شاب أمريكي في سانتياغو عاصمة تشيلي خلال الأسابيع الأولى لانقلاب عام 1973 الفاشي ضد حكومة الوحدة الشعبية التي كان يتزعمها سلفادور الليندي.. وقصة الفيلم: الشاب تشارلز هورمان وزوجته مواطنان أمريكيان يعملان في سانتياغو ويعيشان حياة هادئة حلوة.. يذهب في رحلة قصيرة إلى بلدة قريبة بأمل أن يعود مساء لكن إضراباً لسيارات النقل يحول دون عودته. في اليوم التالي يتضح أن هناك انقلاباً عسكرياً يجتاح البلاد وقد قضى للتو على حكم الليندي، ويكتشف تشارلز خلال ذلك نقاطا تشير إلى تدخل المستشارين العسكريين الأمريكيين بعملية الانقلاب. أحد هؤلاء المستشارين يعود بتشارلز بسيارته إلى العاصمة سانتياغو، ولكن في غياب زوجته تأتي قوة من الانقلابيين وتعتقله. من هذه النقطة يصبح مفقوداً بين المفقودين. الزوجة تسأل شهود عيان من الجيران.. تلاحق سفارة الولايات المتحدة بلا فائدة.. يصل «اد هورمان» والد الشاب من نيويورك للبحث عن ولده. يمثل الوالد دور أب خمسيني، رجل أعمال متوسط ومحافظ، لكن له صلات طيبة مع عدد من شيوخ الكونغرس. وهو مؤمن مسبقاً بأن ابنه قد قام بعمل غبي من نوع ما حتى أصابه ما أصابه، ومؤمن أكثر بأن زوجة ابنه أسوأ منه.. يذهب لسفارة بلاده باعتباره مواطناً أمريكياً كي يستوضح الأمر.. وخلال عملية البحث عن ابنه التي تطول، يكتشف «اد هورمان» بفضل الزوجة الشابة بأن ابنه ليس ذاك الشاب الطائش الذي ظنه طويلاً. يكتشف كذلك ما هو أخطر أن السفارة لم تزوده بكل المعلومات المتوفرة لديها منذ اليوم الأول حول اختفاء ولده، فقد مات تحت التعذيب منذ الأيام الأولى لتوقيفه.. ولم يكن ليعذب أو يموت لولا موافقة الجهة الرسمية الأمريكية. أما لماذا وصلت الحال إلى درجة السماح بالقتل، فلأن تشارلز هورمان الشاب كان يعرف عن تدخلات «المستشارين الأمريكيين» في الانقلاب العسكري أكثر مما يجب.‏

وقد ثارت الإدارة الأمريكية لعرض الفيلم واعتبرته الخارجية الأمريكية تشهيراً وإساءة.‏

وفي فيلم «حنة. ك» 1982 الذي يتحدث عن الوضع المأساوي للفلسطينيين في السبعينات يكشف غافراس الوجه الفاشي والطبيعة العنصرية للكيان الصهيوني وهو عن علاقة بين مناضل فلسطيني ومحامية يهودية هنَا كيمبسون حملت اسم الفيلم «ميشيل غافراس» منتجة الفيلم وزوجة المخرج قالت حوله: «فكرة الفيلم الأساسية مستوحاة من مؤلف قصة موبي ديك. إنسان موجود.. وتكون هناك فوضى عائمة من حوله نتيجة وجوده هذا.. وبقائه حياً يضر بهم وبمصالحهم لذلك عليهم العمل على إبعاده بأي الطرق.. وكان هذا بداية الاصطدام بالواقع الحياتي.. وكان لابد من طرح الحل أو الرؤية الأوربية للقضية الفلسطينية بمنظار دقيق وأشمل لأبعاد القضية من حيث كونها قضية شعب له حق الوجود في وطنه وأرضه.. ومن هنا برزت الفكرة وتقدمنا لإخراجه للوجود في عمل فني سينمائي متطور فنياً وناضج فكرياً.. وشامل لأحداث القضية الفلسطينية منذ بداياتها، وبدايات الاحتلال الصهيوني وإنشاء المستوطنات».‏

«المغدور» 1988 يعالج فيه كوستا غافراس مسألة التمييز العنصري في قلب أمريكا. البطلة هي عميلة لمكتب التحقيقات الفيدرالي «اف بي أي» عن فيلم المغدور قال غافراس «إنه فيلم هام من أجل القيام بشيء كان قد تم التأكيد عليه وتلك المشكلة المحددة لكي يتم إبراز العنف، العنف المتطرف».‏

ترتكز معظم أحداث العنف العنصري في الفيلم على ما حدث في ثمانينات القرن الماضي، وكان رجلان من عصابة الكوكس كلان العنصرية في الاباما قد اتهما منذ عام 1981 بارتكاب جريمة تم فيها ضرب فتى أسود ثم تعليقه بحبل وشنفه حتى الموت.. ونقل عن أحد رجال العصابة إنه قال «كنا قد خرجنا للصيد».. أما جريمة المشهد الافتتاحي للفيلم والمتعلقة بمقدم استعراض حديث إذاعي فهي ترتكز على جريمة عام 1984 التي وقعت لآلان بيرغ مقدم استعراض حديث في دينفر.. والتي نسبت إلى عصابة نازية جديدة مقرها «ايداهو» تسمى «النظام». أما حبكة الخيال في الفيلم فترتكز على قصة العميلة السرية للـ «اف بي أي» ديبرا وينغر التي تقع في غرام رجل هو «توم» والتي كانت قد أرسلت للتحقيق عن تورطه في جرائم عنصرية واشتراكه في التخطيط لها.‏

في عام 1989، وقبل أشهر قليلة من انهيار جدار برلين، أحرز غافراس جائزة «الدب الذهبي» في مهرجان برلين عن فيلمه «العلبة الموسيقية». لكنّه لاذ بعد ذلك بفترة صمت طويلة، حيث لم يقدم أيّ جديد حتى عام 1995. حيث اشترك مع عباس كياروستامي ولاس هالستروم في إخراج فيلم جماعي بعنوان «الأضواء وما شابه».‏

وأخرج في هوليود فيلمان لم يلقيا نجاحاً، وهما «مدينة الشرّ» بطولة جون ترافولتا 1997 و«آمين» بطولة ماثيو كاسوفيتش 2002.‏

بعد خمس سنوات من الغياب، يسجّل غوستا غافراس، عودةً إلى واجهة السينما العالميّة، بفيلمه الذي قُدّم عرضه الأول في اختتام «مهرجان برلين السينمائي» في دورته التاسعة والخمسين. وقد حمل الشريط عنوان «غرب عدن» Eden à L’ouest، في إشارة رمزية إلى فيلم إيليا كازان الأشهر «شرق عدن» «بطولة جيمس دين ـــــ 1955». عرض الفيلم سيمفونية ناعمة حولت القصة التراجيدية لمهاجر من الجنوب إلى الشمال إلى نوع من كوميديا خفيفة في شريط اعتبره غافراس الأكثر ذاتية في مسيرته الفنية، بحث عبر الفيلم في داخله عن كثير من الأشياء التي يرويها فيه.‏

ويريد غافراس، الحائز على جائزة الدب الذهبي مرتين، من خلال فيلمه الحديث عن الآلاف من الآباء الأوروبيين اليوم الذين هم أصلاً من المهاجرين، فضلاً عن هجرته الخاصة من اليونان التي يقارنها بالهجرة اليوم.‏

ويضيف في مقابلة خاصة بالملف الصحافي الذي وزع للفيلم، إنه أراد هذا العمل «على نحو أوديسية». وفي هذه الأوديسية يكون على البطل أن ينتصر في النهاية وأن يخرج سالماً وحراً من كل مغامرة تتوالى منذ ترك تجار التهريب له ولرفاقه في عرض البحر واضطراره للسباحة بدل الوقوع في أيدي الشرطة في مكان يفهم المشاهد أنه إيطالياً. ويتضمن الفيلم في أحيان كثيرة استعارات ويكشف من خلال هذا المهاجر المسكون بالأمل خبايا المجتمعات الأوروبية.‏

إن السياسة في أفلام كوستا غافراس ليست معقدة أو حاذقة.. من هنا لم تكن سياسة القمع عنده على هذا الشكل المعقد، كما يقول، فهي سياسة تدخل حياتنا بكل قوة، وبكل دراماتيكية «إثارة» أحياناً في حياة بعض الناس مثل آل هورمان في فيلم المفقود أو سليم البكري في فيلمه حنا. ك أو الاغتيال في فيلم زد.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية