|
ملحق ثقافي
ومصر الإسلامية، ويؤكد ذلك الانتماء ما ورد في كلمة نجيب محفوظ أمام لجنة جائزة نوبل للآداب: «إنه معمار هندسي فذ، ذلك لأنه نتاج ثقافتين عظيمتين: الفرعونيّة والإسلاميّة». وهو لا يتطرق في أعماله الروائية إلى التيار القومي العربي على الرغم من تأييده قضايا العرب الوطنية منها والقومية، فهو يجيب إذ يسأل عن عدم كتابته عن القضايا العربية: «إن مصر بلد عربي، وإننا كلنا في الهم شرق»، ولذا تراوح بين النزعة المصرية المحلية والنزعة الإنسانية. ومما يرسخ هذه النظرة في خطبة سعد زغلول أمام سلاطين الاحتلال في جمعية الاقتصاد والتشريع، وقد وظفها محفوظ في ثلاثيته «بين القصرين»، وأضفى عليها مسحة واقعية، فنسمع فهمي عبد الجواد يملي على أخيه الأصغر كمال جزءاً من هذه الخطبة: «أعلنت إنجلترة حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية». وفي الثلاثية لا نكاد نسمع كلمة واحدة عن العروبة تتردد على لسان إحدى الشخصيات، فها هو ذا الراوي يتحدث عن انسلاخ شبان الطبقة الأرستقراطية عن انتمائهم الوطني والقومي. فالمصرية، ـ إذاً هي تيار قومي علماني مفصول عن الدين، وهذا التيار إطار إيديولوجي يعادل التيار القومي العربي، ومن هنا، فإن فكرة العروبة لم يكن لها حضور في الثقافة المصرية لأسباب تاريخية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالهيمنة المركزية للدولة العثمانية التي تحارب الفكر القومي العربي، ولذلك فإن شخصيات محفوظ كلها لا تعتقد بالعروبة هوية بل لسان وهوى، لذلك أيضاً جاء محفوظ لتكريس مفهوم القومية المصرية إطاراً سياسياً وثقافياً في ثلاثيته، من هنا فإن رؤية محفوظ السياسية تتم بالموضوعية ولها أبعاد وطنية وقومية وإنسانية. وعلى الرغم من ميوله السياسية الوفدية، وجد نفسه عاجزاً عن أن يكون صدىً للشعارات والمقولات التي نادت بها الثورة. كذلك لم يجد مبرراً إيديولوجياً فعلياً للوقوف في صف المعارضة مادامت الثورة تهدف إلى العدالة الاجتماعية. وفي الاتجاه نفسه ينحاز محفوظ فكرياً وسياسياً لثورة 1919 ولحزب الوفد وتوجهاته الليبرالية، كما ينحاز إلى سعد زغلول ـ كما أسلفنا ـ بصفته زعيماً وطنياً، ويتعاطف مع الوطنيين الأحرار مثل فهمي عبد الجواد. وعلى الرغم من أن محفوظاً ينتمي لإحدى شرائح البرجوازية الصغيرة، فإنه ينتقد عيوبها ونقائصها والمشكلات التي تعانيها، ويبدي تجاهها مواقف جريئة وصريحة، وخصوصاً عائلة أحمد عبد الجواد، فأفرادها ليسوا على مستوى واحد من الوطنية، كما لاحظنا اختلاف موقف فهمي الطالب المثقف من الثورة والعمل السياسي عن موقف والده، حيث اتجه إلى المشاركة الفعلية في الثورة، وأخذ مفهوم الوطنية عقدة بعداً ثورياً وإن لم يمازجه شعور رومانسي جارف. وحين يكتشف الأب بالمصادقة اشتراك ابنه في التظاهرات، يحاكمه على فعله، ويأمره بتقطع صلته مع الثوار والثورة: «ولكن فهمي يرفض أن يقسم على القرآن بأن يترك الثورة، لأنه لا يستطيع أن يتخلف عن إخوانه، ولا تطيب له الحياة إن فعل، ولأن حياته تهون في سبيل الوطن، وهي ليست أحسن من حيوات الذين استشهدوا في التظاهرات»، «بين القصرين، ص446»، وهنا ويتجلّى الاختلاف بين وطنيّة الابن ووطنية الأب، كما في المثال التالي: «إنه لا يحتقر المجاهدين، طالما تابع أبناءهم بحماس ودعا لهم بالتوفيق....، ولكن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً، إذا صدر عمل من هذه الأعمال عن ابن من أبنائه، وكأنهم جنس قائم بذاته خارج التاريخ، هو وحده الذي يرسم لهم الحدود لا الثورة ولا الزمن ولا الناس، الثورة فضائل لاشك فيها مادامت بعيدة عن بيته، فإذا طرقت بابه وهددت آمنة وحياته وسلامة أبنائه، .... فلتشتعل الثورة في الخارج ويشارك فيها هو بقلبه كله، وليبذل ما في وسعه من مال، وقد فعل.... فهو ثائر على البيت لا على الإنجليز». «بين القصرين، ص 448». أما ياسين فينظر إلى الثورة من زاوية ضيقة، وكمال الصغير لا يدري ما يجري حوله من أحداث؛ بينما الأم كان موقفها من الإنجليز مسالماً، وسلبياً من الثورة، وحينما استشهد ابنها فهمي امتلأ قلبها غيظاً وحقداً على المحتلين، أما حفيده أحمد فاكتفى بتعليق صورة سعد تحت البسملة، بعدما ذهب زمن الخوف. وبناء عليه يمكن تحديد رؤية محفوظ السياسية التي تجسدها ثلاثيته، في البيئة المصرية وتحديداً الفئات الوسطى والعليا والشعبية الدنيا، ومن اللافت أن المؤلف في تناوله للمسألة الوطنية، وما يتمخض عنها من أساليب مقاومة ضد الاحتلال البريطاني، ومواقف المواطنين المختلفة والمتناقضة أحياناً من هذه المسألة، ودور الشخصيات البارزة على الساحة الروائية. حيال هذه المعطيات كلها، اتسمت رؤية محفوظ بالعمق والشمولية، فقد ركز على فئة الشباب المثقف ممثلاً بالطالب فهمي، وهم ـ في منظوره ـ يمثلون الوعي الممكن في التغيير والبناء، ولكنه لم يتجاهل الفئات الشعبية والأحزاب الوطنية الحرة مقابل الفئات السلبية، المتحالفة مع الحاكم والمحتل وهم يشكلون الوعي الزائف، فالخيانة مقابل الأمانة «زيور ? سعد زغلول»، والوطنية ضد الانتهازية «فهمي ? رضوان». هذه التناقضات والمفارقات نابعة من وعي التضاد، وهي ـ من حيث الوظيفة والدلالة ـ تجسد جوهر الصراع، ويبني عليها المؤلف عمله الروائي ومن خلالها يجسّد رؤيته، لأن الفكر والوجدان هما اللذان ترشح منها الرؤية. ونجيب محفوظ ـ في هذه الناحية ـ كان قارئاً متبصراً بالوضع السياسي في أثناء مرحلة الكفاح الوطني ضد الاحتلال والاستبداد، فهو ـ من وعيه الفكري ورؤيته السياسية النابعة من نزعته الوطنية والإنسانية ـ يرفض الفئات الارستقراطية والتجارية رفضاً قاطعاً، لأنها أداة استغلال الإنسان وقهره، فقد وصفها محفوظ في ثلاثيته وصفاً دقيقاً بصوت كمال فقال مقلقاً على كلام إسماعيل المتعالي: «أنت لا تهمك السياسة في شيء، لكن مزاجك يفصح عن موقف فئة من المحسوبين على المصريين كأنك ناطق بلسانهم، فتراهم يائسين من نهوض الوطن، يأس الاحتقار والتعالي، لا يأس مع الطموح، ولولا أن السياسة مطيّة لأطماعهم، لاعتزلوها كما تفعل أنت!»، «قصر الشوق، ص201». كما تكشف رؤية الكاتب عن إيمانه بفكرة التطور التاريخي التي تقتلع كثيراً من التقاليد والرواسب، وتقوض كثيراً من الأعراف، لأنها لم تعد صالحة في وجه الزمن، واستحالت إلى عقبة كأداء في درب التقدم الاجتماعي والحضاري، وكثيراً ما يستخدم محفوظ وجهات النظر المختلفة لتوسيع دائرة الرؤية، فيلقي الراوي المحايد نظرة على المكان مبرراً التغير الذي يطرأ بفعل الزمن، مثل اختفاء الفانوس وظهور المصباح الكهربائي، ويوظف أحياناً الرؤى توظيفاً فنياً ناجماً، حيث يقدم نوعاً من التقابل بين الأدب في آخر أيامه وبين وجهة نظر ابنه كمال الشاب سناً والعجوز مشاعر، وأحياناً أخرى من الخاص إلى العالم كشيخوخة كمال المبكرة التي ترجع إلى ارتباطه بأسرته عاطفياً، من ناحية، وشعوره بالغربة من ناحية أخرى. كما أن إيمانه بفكرة التطور جعلته يتشوف دائماً إلى معتقد تطمئن إليه نفسه، ويقينه، ولهذا نجده يعتنق المذاهب الاجتماعية والآراء السياسية، ويبذل في سبيلها من نفسه ما كان يبذل سلفه القديم في سبيل الله أو قيصر، ونلقاه على الرغم من تشديده في نظرته إلى الفئة الوسطى، على المنحى العقائدي القائم على الإيمان الديني والمذاهب الفكرية والسياسية، يولي الشأن المادي اهتمامه الأول. هذه ملامح الرؤية السياسية والاجتماعية وتجلياتها المعرفية والجمالية، تكشف عن عقيدة محفوظ الفكرية والإيديولوجية، وعن رؤيته التقدمية للعالم الذي يصوره، ويستوحي مادته من الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي. |
|