|
شؤون ثقافية في كل مرة يعاد فيها ترتيل (الشعر-الكلمة) لا يقتصر الأمر على مجرد نفخ روح بأحرف رصفت إلى جانب بعضها بل هناك معجزة إحياء مزدوجة للنص وخالقه. من هنا كيف لنا ألا نشعر بحضور محمود درويش عند سماعنا لأشعاره ؟، وكأنما قوة غير ملموسة مادياً إلا أنها محسوسة معنوياً تشي بأثر طاغ خلفه درويش وراء كل كلمة خطها. هي إذاً جمالية الإبداع الساحرة الماكرة التي تمارس علينا وهي قوة الكلمة التي يحسن الشاعر توظيفها لتكون ذات صوت لا يقهر وأثر أعتى من مئة رصاصة عدو تحاول اغتيال الكلمة قبل اغتيال صاحبها. روح محمود درويش حومت وحلقت أشعاره ومن خلفها أفكاره في الكولاج المسرحي (شاعر طروادة) الذي قدمته فرقة الورشة من إخراج حسن الجريتلي كتحية إلى القدس عاصمة للثقافة العربية 2009 م من الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008م. يأتي عنوان الكولاج (شاعر طروادة) تأكيداً لرغبة درويش التي عبر عنها يوماً (أنا أحاول أن أكون شاعر طروادة) فكتب ملحمته الخاصة إلياذته الفلسطينية لتكون صوتاً للذين لا يمتلكون صوتاً يروي قصتهم ويوثق لحقهم ولو في امتلاك مجرد الصوت. يؤكد من تعاملوا مع نص محمود درويش أنه كان يترك لهم حرية التعامل مع ذاك النص الذي اختاروا، من هؤلاء الدكتور عادل قره جولي وكذلك الفنان مارسيل خليفة، وها هو يترك الباب موارباً حسب تعبير الجريتلي بالنسبة لفكرة كتابة نص من النوع الذي قدّمته (الورشة) وهو مؤشر لمدى الفهم العميق لما يجب أن يكون عليه الإبداع لدى شاعر مثل درويش لا بد أنه آمن بأن الفنون جميعها لا تختلف إلا لتعود فتلتقي. إذاً ما المانع حسب هذه الرؤية من أن يقدم الشعر غناءً أو ممسرحاً وهو ما كان في هذا العمل ؟. هناك إلقاء شعري صرف في مشاهد أدتها (نيفين علوبه) من (خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض) ديوان أحد عشر كوكباً. وغيرها من أشعار أخذت من دواوين وقصائد أخرى لدرويش اقترن فيها الإلقاء بالأداء المسرحي كما في قصيدة (البيت قتيلاً) ديوان أثر الفرشة، قامت بهذه اللوحة (عارفة عبد الرسول). تخلل المشاهد المسرحية فواصل غنائية أداها أعضاء المجموعة متناوبين أو مجتمعين لقصائد مشهورة للشاعر مثل (في البال أغنية، ريتا والبندقية، أحن إلى خبر أمي)، بالإضافة إلى وجود لوحات اعتمدت قوام الحكاية جمعت تلك الحكايا من قصائد لدرويش أو من مصادر أخرى مثل اللوحة التي جاءت مونتاجاً عن خطابات راشيل كوري بأداء (داليا الجندي) أو مثل حكاية (بخاطرك يا بلدنا) المقتبسة من ملف عن النكبة، قامت بها (نهاد أبو العينين). (صبرا) حضرت في اللوحات ومن أحداث (صبرا) إلى أحداث أيامنا الحالية أحداث (غزة)، هناك خيط من الدم يربطها ويربط كذلك ما بين كل حكايا العرض الذي أومىء إليه بدائرة (بقعة) الإضاءة الحمراء التي بقيت معظم مدة الكولاج في عمق الخشبة متحولة إلى اللون الأبيض نهاية مع ظهور صوت محمود درويش في قصائد (نكبة، سيناريو جاهز) معلناً أنه ما زال حياً وحياً وحياً رمزاً لبقاء شعبه حياً هو الآخر. اتقنت فرقة (الورشة) شد وجذب المتلقي إلى الحالة الشعورية التي سعت لخلقها حيث الإحساس بالوحشة والمرارة قناعة الحالة اللاإنسانية التي يحياها من تسلب أرضه وصولاً إلى لا إنسانية الظرف الذي يحيط بالفلسطيني. جاءت الإضاءة معبرة عن هذا الغرض غالباً ما كانت المساحة السوداء في الفضاء المسرحي هي الطاغية دون نسيان أسلوب الأداء الصوتي (الهمهمات) المرافقة في كثير من اللحظات لإحدى الشخصيات في إلقائها الشعري أو سردها لحكايتها همهمات بدت أكثر أثراً وتأثيراً من الكلام المباشر حضرت كما لو أنها صدىً للروح المعذبة المقهورة التي خنق صوتها الصريح. في هذا الكولاج.. استعدنا محمود درويش حضر معنا ذاك العاشق الأبدي للحياة ولو للحظات قاهراً غول الموت معلناً صوته في زمن أشد ما نكون فيه لأصوات مماثلة مجاهرة في زمن عزّت فيه حتى أصوات الحق. |
|