تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ثقافة البصيرة

الملحق الثقافي
10/2/2009م
نـذيـر جعفـر

قبل أن يكتبوا على الطين نحتوا الحجر, ورسموا على جدران المغائر آلهتهم وكواكبهم, وملوكهم, ونباتاتهم, وحيواناتهم المقدّسة.

ذهب هؤلاء الأسلاف السومريون والأكاديون والفينيقيون, وبقيت آثارهم مكسر الطامعين والغزاة. حتى الكتابة في مراحلها الأولى كانت بصرية, وفي الرحلة الطويلة ما بين البصيرة والبصر تراجعت ثقافة العين بأبعادها المتعددة لتحل ثقافة السمع ببعدها الأحادي! تسيّد الشعر الشفاهي حديقة الإبداع واختفت الألوان والأشكال والحركات, حضر الصوت وغاب الجسد!‏

الثقافة البصرية هي ثقافة البصيرة لا ثقافة النظر, البصيرة التي تحدس وتتخيّل وتتنبأ, البصيرة التي تتجسّد تمثالا أو لوحة أو حركة راقصة. واختزال الثقافة البصرية في ما تبثّه الفضائيات اعتداء عليها وقتل لجمالياتها وتشيؤ لروحانيتها.‏

غياب الثقافة البصرية في مجتمعنا العربي المعاصر غياب للفنّ, وغياب للثقافة متعدّدة الأطياف والألوان, وحضور لثقافة البعد الواحد.‏

عندما يتحوّل اقتناء اللوحة الفنيّة إلى هاجس, وعندما ُتزيّن الساحات والحدائق بالنصُب الملحمية والتذكارية, وعندما تصبح الباليه طقساً عائلياً, والمسرح والسينما همّاً جماهيرياً, عند ذلك نعيد لثقافة البصيرة مجدها, وللروح بهجتها ومتعتها المفقودة.‏

في ظل العولمة المتوحّشة تتصدر الواجهة ثقافة الصورة, صورة الموت اليومي, صورة الدم, صورة الفرد المهزوم, وتتوارى صورة الوطن, تتوارى ثقافة البصيرة.‏

كيف ننهض بالثقافة البصرية؟ سؤال يرتبط بما هو سياسي واقتصادي واجتماعي, فلا يمكن لثقافة من هذا النوع أن تنهض في ظل الفقر والأميّة. لا يمكن لثقافة التعدّد والاختلاف واللون والحركة والكتلة أن تنهض في واقع مفوّت ومهمّش وتبعي. الثقافة البصرية تتفتّح في ظل الاستقلال والرفاه الاقتصادي والاجتماعي وحريّة الرأي والاختلاف تحت سقف الوطن الواحد.‏

ولكن بقدر ما تحتاج الثقافة البصرية إلى هذا المناخ الإبداعي فهي تسهم بقدر ما هو متاح لها في خلقه أيضاً. وفي حدود ما هو متاح يمكن التفكير بتوسيع دائرة معاهد الثقافة البصرية ودورها لتشمل قطاعات شعبية واسعة ممن لديهم الموهبة والرغبة. فتعمل على تشجيع المبدعين في هذه المجالات, وتسوّق أعمالهم, وتستقطب المهتمين, وتوسّع دائرة التلقيّ والحوار البصري. كما يمكن إنشاء منتديات على الإنترنت لفتح باب الحوار عنها.‏

الثقافة البصرية هي ثقافة الحوار لا ثقافة التلقيّ, الحوار مع اللوحة ولونها, مع الجسد وحركته, مع العمارة وفضائها, مع الزهرة وعطرها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية