|
ثقافة وبالمصادفة والعفوية، ودون سابق تخطيط أو تدبير، على دفتر صغير أحمله دوماً وأكتب فيه ملاحظاتي، قصيدة الجواهري في الإشادة بمدينتي حمص، كلمة كلمة وبيتاً بيتاً وهو يلقيها بعنفوانه المتوثب مقدماً بها لأمسيته في الحفل ولا أزال حتى كتابة هذه الأسطر، أي منذ أربعة وأربعين عاماً أحتفظ بنسخة تلك القصيدة بعد أن أعدت كتابتها بخط مقروء واضح في اليوم التالي للأمسية وزينها لي بالرسوم المعبرة ابن عمي الرسام. والغريب حقاً أن الصحافة الحمصية اليومية آنذاك لم تنشر القصيدة فيما وقع حينها من أعدادها بين يدي وأنا المتابع، وقد يكون السبب - وهذا هو المرجح- أنها لم تحصل عليها من الشاعر لأنه كان قد غادر المدينة بعد سويعات من انتهاء الحفل كما عرف وشاع وقتئذ بين الناس وتناقلته الألسن المهتمة ولغا به المطلعون. بقي قبل أن أختم هذه الذكرى الحميمة إلى نفسي ختاماً أولياً أن أقول: إنني راجعت ديوان الجواهري الضخم المؤلف من خمسة أجزاء لا يقل عدد صفحاتها عن ثلاثة آلاف صفحة على وجه التقريب والصادرة عن وزارة الثقافة في سورية فلم أعثر على أثر لهذه القصيدة الجميلة المعبرة التي تؤرخ لحقبة أدبية وسياسية ونضالية مهمة في حمص وحياة القطر، فلعلها ضاعت بين أوراق شاعرنا الفقيد أبي فرات مع مرور الزمان وتبدل المكان بين وطنه العراق وبين أقطار المنافي العربية والأجنبية التي استضافته في رحابها معززاً مكرماً، فكان أن خسرت مدينة ابن رغبان ديك الجن الحمصي ومدينة نسيب عريضة أم الحجار السود تخليدها شعرياً في آثار الشاعر المطبوعة كما خلدتها دواوين الشعراء القدامى والمحدثين في أشعار تخصها، لذلك أزجي لروح الجواهري في مستقرها - وأنا الذي التقيته لمرة واحدة في حياتي شخصياً وسهرت إلى منضدته وشاركته قهوته في مطعم فندق (سميراميس) في دمشق عام 1971 وكانت المناسبة انعقاد مؤتمر الأدباء في عاصمة الأمويين وكنت أحد المدعوين لحضوره والمساهمة في أعماله - تحياتي القلبية الحارة رحمه الله وأجزل ثوابه عن شعره وفنه ووطنيته والتزامه، وقصيدته الضائعة منه، ردها إليه شاعر من حمص كان يضع قدميه الفتيتين آنذاك على أول درجة من سلم الشباب وما دونها من الشعر يوم سمعها ونسخها، وهاهو الان قد بلغ شتاء المشيب ولايزال يطرب للشعر الأصيل ويحفظه ويحتفظ به، علها تجد لها مكاناً أثيراً (لمن يقرأ هذه المذكرة من القيمين على النشر في وزارة الثقافة ويهتم بتراث هذا الشاعر القومي الكبير) في طبعة قادمة لسفر الشعر العربي الشامخ وعنوانه العريض (ديوان الجواهري). في عصارى اليوم التالي لهذه الأمسية الفائقة النجاح صدرت جرائد حمص وقد استطالت على صفحاتها الأولى قصيدة شاعرنا في الفقيد الشهيد والباعة الجوالين للصحف ينادون ترويجاً لبيع صحفهم في الشوارع الرئيسية المزدحمة بالسابلة في المدينة مرددين بحناجرهم العالية (قصيدة الجواهري في المالكي.. قصيدة الجواهري في المالكي).. وصادف مروري وقتها مع ثلة من أصحابي الطلاب المحبين للأدب بالقرب من حديقة مقهى الدبلان الصيفية فشاهدنا مجموعة من الأدباء والشعراء الحماصنة ممن ذكرت أسماؤهم في مطلع هذا الحديث منكبين على جريدة نشرت القصيدة يقرؤونها قراءة صامتة أو بصوت مسموع ويتبادلون الترحيب بها والثناء عليها فتمنيت في سري أن أكون واحداً منهم أجالسهم مجلسهم الثقافي هذا وأنصت إلى آرائهم ونقاشاتهم حولها وأدلي بدلوي مع دلائهم ولكن أنى لي ذاك وأنا حينئذ ما برحت أحبوا في طريق الشعر ومازلت غراً فيه إلى أن امتلك عليّ أهم جانب من جوانب وجودي واستولى على أفسح مساحة من مساحات حياتي فانشغلت به كقضية من أهم قضايا الفن والإبداع فأضحى أحد أبرز هواجسي وهمومي حتى أصبحت شاعراً وياله من وسام رفيع أرصع به صدري. ختاماً أخيراً: في ظهيرة يوم الاثنين الواقع في 28/7/1997 اتصل بي هاتفياً الصديق الأديب الدكتور عبد الكريم عبد الصمد رئيس القسم الثقافي في جريدة (تشرين) وطلب مني كلمات موجزة بمناسبة وفاة شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري فاستمهلته إلى المساء لأنني كنت في انشغال وعلى عجل من أمري، ومع المغرب رحت أملي عليه عبر أسلاك الهاتف وداعية نثرية أو مرثية روحية في أعظم شعراء العرب خلال القرن العشرين وعنوانها (شجرة الشعر) وقد نشرت في اليوم التالي على الصفحة الأخيرة من الصحيفة مع شبيهات لها بأقلام حنا مينة ونصر الدين البحرة وعبد الإله الرحيل وعبد الغني العطري وعفيفة الحصني، وفيها أقول: بعد ليل من صمت الجسد هوت شجرة الشعر الباسقة.. أثمرت على شلال غيمة سكوب من هذا القرن الباغي الشرس قصيدة الإنسان يعاني الحياة ويلتهب في أتونها، وهو يصبو إلى خلاص وفتنة وسعادة، وقصيدة الشعوب تقاسي الموت والحطام وهي ترنو إلى حرية ووطن كما السماء في شموخها، وبينهما -الإنسان والشعوب- صبوة القلب والشعور يضوعان عطر الحب وبراءة الطفولة وجمال الوجود، وضمير الذات. بعد ليل من صمت الجسد تداعت روح شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري. ليست حياته هي حياة امتداد العمر والطعون في هلاك السنين عندما تطول وتطول حتى السأم والملل، وإنما هي حياة النسغ المتواصل العطاء موقفاً وكلمةً ورأياً ونضالاً، وهدماً لفاسد يستشري، وبناءً لقادم ينهض من بين الأنقاض ليغني ملحمة لساعد يبني، وصرح يعلو وجبهة كما الشمس أنفاً لا تذل ولا تنحني للعواصف مهما استكبرت، هي حياة لها معناها العميق لأنها سارت في ظلام، فأوقدت شموعاً ودرجت في طريق وعرة، فمهدت وسوت، وأينعت وأخصبت وسكبت رحيقها في النفوس الظمأى لحاضر ينمو وغد يزدهر، فارتعشت بالشعر ماءً قراحاً يتفجر من صخر كتيم، واهتزت للقوافي وهي تترنم. بالأمل وضاءً كرونق الصباح. يذر الزمن الغبار وينثره في الفضاء فيغيب ويتلاشى وينعدم، لكن التراب في الأرض يتجذر بسنبلة خضراء يدحوها زند العمل، فتصبح رغيفاً تلقمه الأفواه وتستمر به الكينونة الإنسانية في دربها الصاعد إلى العلاء بخبز الجسد، وهكذا سيبقى شعر الجواهري غذاء للأرواح والأنفس والعقول والأدمغة، ينشر أريجه في كل بيت ومدرسة وجامعة وقلب عاشق، في كل زهرة ووردة وحديقة... في الإنسان وتشوفه إلى مستقبل أفضل وحياة أمثل.. -الكون وطنه- والدنيا والأبعاد.. بغداد كعبته، ودمشق هواه وبينهما من البلاد والعباد كان على سفر دائم، موكل بفضاء الله يذرعه من منفى إلى منفى، ومن مهرب إلى مهرب، زوادته الكلمة وشرابه الشعر، وعافيته حب للعرب والعروبة، والعدل والسواء بين بني البشر من كل جنس ولون، فلا يعرف مستقراً فيحمل صليبه على كتفه ويمشي طالباً اللجوء فترحب به عاصمة الأمويين بعد طول اغتراب وتفرش له على أرضها حقول المحبة وتحتضنه أباً للشعر والكفاح وتغدق عليه من مودتها أريج ياسمينها في حياة النأي والغربة... فيبادلها حباً بحب ووفاء بوفاء، ويصوغ نشيده الأخضر يمجد فيه «جبهة المجد» سورية الحديثة والقائد العربي المظفر حافظ الأسد، ويصبح نشيد الشعر نشيد غناء على كل شفة ولسان، يحبان الوطن والإنسان، ثم تحضنه دمشق ابنا لها يعود إلى أمه الرؤوم الأرض. كدت أقول - وأطايب عيشك كلها منهوبة يا أبا فرات: كرمى لك جاء هذا الموت بعد أنين العظام وانكسار الأحلام. |
|