تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


خواطـــر فـــي الشـــعر وأزمتـــــه

رسم بالكلمات
الاثنين 5-1-2009م
عمر إدلبي

قيّض لي في الآونة الأخيرة أن أجريت عدة حوارات صحفية، وأكثر ما لفت انتباهي ـ كقاسم مشترك في أسئلة معظم الصحفيين الذين التقيتهم سؤال بدا أنه محوري يؤرق بال الكثيرين، وهو:

ما الذي تبقى من مقولة "الشعر ديوان العرب"؟ وبصيغة مغايرة طرحه بعضهم كالتالي: هل يمكن القول أن الرواية غدت ديوان العرب الجديد؟ ويطلب مني آخر أن أعتقد معه أن الحداثة ساهمت في غربة الشعر وخذلان وجدان الناس!!‏

السؤال بصيغتيه مشروع بالتأكيد، وأزمة الشعر تدعو بالضرورة إلى تفقد حاله وتفحص دلائل عافيته من عدمها، والاعتقاد بمسؤولية الحداثة عن هذه الأزمة له ما يبرره من حيث المبدأ، وهذه الخواطر تتوخى مقاربة الموضوع الهام هذا بشيء من الروية والتمعن.‏

ما الذي تبقى من مقولة "الشعر ديوان العرب"؟ الكثير بالتأكيد، ولكن يحتاج الديوان إلى من يدونه، وإذا مكنت الظروف الموضوعية شاعراً حقيقياً من القيام بهذا الدور يكون قد أدى رسالته ودوره في التدوين أولاً، والتواصل ثانياً، ومن دون التواصل لا يتم من الأمر برمته شيئاً، فالتواصل عملية مركبة وظيفياً، وتحتاج لكي تكون مؤثرة إلى أنساق مشتركة بين الشاعر والمتلقي، كما هو الحال في نسق اللغة شكلاً ومضموناً والأنساق الجمالية والفكرية، وهذه المقومات قد نجدها في نص لشاعر هاوٍ يجتهد ويعمل للتأثر من / والتأثير في بنية عقل وذائقة الناس، وقد لا نجد أثراً لها في نصٍ لشاعر محترف، إن كان محترفاً فعل الكتابة، لا فعل التفاعل مع الوجود.‏

مثل هكذا شاعر مبدع موجود بالتأكيد، ولا حاجة لإيراد أسماء يعرفها كل مهتم بالشعر، وهم شعراء لا يمكن تجاهل تأثير صوتهم وخطهم وخطابهم في ديوان العرب المعاصر، وهو ديوان لم يعد الشعر يشكله بمفرده، وهذا ليس هزيمة للشعر، بمقدار ما هو فعل من أفعال الحياة المتجددة، فالمسرح كان ذات يوم ديوان البشرية، فهل انهزم المسرح بصعود فنون أخرى؟‏

ولكن، من منظور الاستجابة القرائية أعتقد أن الرواية تحظى اليوم باستقبال أكثر حفاوة، قياساً بالأجناس الأدبية الأخرى، ومنها الشعر بطبيعة الحال، وأعتقد أن كون الرواية منتجاً أدبياً غربياً لا سابقة له في الأدب العربي قبل بدايات القرن الماضي سهل له مهمة خوض مغامرة الحداثة دون خسائر ودون مقارنات ظالمة، هذه المقارنات التي دفع الشعر الحديث ثمناً باهظاً لها، ما جعله في مواجهة دائمة ومتجددة وغير عادلة مع ذائقة ونقد تقليديين، كما أن طبيعة الحياة المدنية وخصوصية العلاقات الاجتماعية وظروف الطبقة الوسطى التي تشكل معظم النسيج السكاني للمدن تعطي أهمية كبرى لجنس الرواية، وأقصد هنا حميمية تلقي سرد يحكي رحلة شخوص نعرف أشباهاً لهم في ذواتنا وفي الآخرين بآن، كما نعرف ظروفاً وأحداثاً جرت معنا أو مع آخرين تشبه ظروف الأبطال الروائيين والأحداث التي واجهوها.‏

إذن، ديوان العرب اليوم تتناوب على تدوينه الكثير من الفنون، ولكن أشد هذه الفنون قسوةً وغرابةً فنُ الترويج للتكيف مع التخلف الحضاري والهزائم و تحويلها بقدرة قادر إلى انتصارات مدوية تثير الرعب من المستقبل.‏

الشعر فن في القول والإبداع، لا يعرف الركون إلى حال، والتجريب في الشعر شرط بقائه، فلنتصور حال الشعر العربي لولا قفزة الحداثة التي توجت في تجارب الرواد في الخمسينات!! الحداثة تفترض عدم الاطمئنان لما أنجز، وبالتالي هي رحلة تطوير وتحرير دائمين للحساسية الجمالية، والحداثة في الشعر نظرة تجريبية خلاقة تستهدف استيلاداً مستمراً للهوية الشعرية، دونما إغفال لحقيقة أن الشعر فن له ذاكرته وتاريخه، والتحديث فيه يعني قبل كل شيء الحرص على حفظ وامتلاك منجزه الفني التراثي، والانفتاح على هذه الذاكرة، والبناء عليها، لاالوقوف عندها ولا محوها والقفز عنها إلى المجهول، ذات الشعر متجددة وحداثوية بالفطرة، لأن ذات الشاعر متجددة تجدد الحياة نفسها، والأمر هنا لا علاقة له بالنخب، بل بالحاجة الموضوعية لهذه الحداثة.‏

أما بالنسبة لتلك الحداثة التي أوصلت النص الشعري إلى قطيعة شبه تامة مع المتلقي، فأنا أزعم أن الحداثة التي تغيب المعنى كلياً أو تجعله آخر اهتماماتها هي فعل تغييب للشعرية ذاتها، أما تعدد مستويات الدلالة؛ أو استتار المعنى بشفافية؛ وخرق مألوف دلالات اللغة بوعي؛ وبهدف جمالي أو فكري؛ والكتابة في المسكوت عنه؛ وهي المطالب التي نادت بها الحداثة الشعرية؛ فإن ذلك كله ليس غريباً على تراثنا الشعري، ولا يمثل حاجة خاصة بالنخبة، أو للتفلّت من مقص الرقيب، لأن في تحقيق هذه المطالب إثراءً للغة الشعر، فاللغة الشعرية إضافة إلى وظيفتها الأداتية التوصيلية أو النفعية، لابد لها من خلق دلالات تخيلية لتستحق صفة اللغة الشعرية.‏

ختاماً، الشعر فعالية إنسانية، ضرورة إنسانية معرفية ذاتية وموضوعية، تتجلى في غير فن من الفنون، ولا يقتصر حضوره على النص الأدبي الشعري فقط، ولهذا أعتقد أنه لا يموت، ولكنه في تجليه الأدبي كنص يعاني الآن تراجعاً في درجة حضوره، لأنه أصلاً ينمو بنمو حرية شاعره ومجتمعه ومؤسسات هذا المجتمع، يصبح الشعر كائناً جميلاً ومؤثراً عندما يتلمس الشاعر ملامح أمل، وفي ظل غياب هذا الشرط اللازم لإنتاج نص مؤثر لا نستطيع القول أن الشعر على مايرام، رغم أن حجم النتاج كميّاً يوحي بعافية النشاط الشعري، لكنه ليس إلا جعجعة، والطحين الإبداعي القليل قد يتعرض ـ بكل صدق ـ للإحباط واليأس.‏

وبالتالي فإن أزمة الشعر، والأدب عموماً، أزمة مركبة تتواطأ وتتناوب أقطاب كثيرة على إدارتها لا حلها، أول هذه الأقطاب هو الأنساق القامعة (الثقافية والسياسية والاجتماعية والروحية والاقتصادية)، وثانيها المبدعون أنفسهم المرتاحون لمستوى إنجازهم، وثالثها الناقد الذي ينسحب بكل سلبية محتفظاً برأيه لنفسه، وآخرها والمتلقي الذي يستسلم لمنظومة تعليب وتأديب وقمع ذائقته، وتشكيلها وفق النمط التقليدي، ومن هنا نلاحظ استمرار الأزمة وتعاظم نتائجها السلبية، بل المدمرة.‏

يمتلك البعض كل الأدلة على أن الشعر مأزوم مهزوم، وأملك ومعي الكثيرين أدلة مقنعة بأن الشعر العربي المعاصر ليس بأزمة حادة ميؤوس منها تستدعي الطلب برفع أجهزة الإنعاش عنه وإعلان موته، وكي أكون دقيقاً وصريحاً مع نفسي ـ على الأقل ـ سأقول أن الشعر مأزوم، ولكنه ليس ميتاً، ولا يحتضر على فراش الموت حتى، ومن يدعي عكس ذلك عليه صدمنا بحجة إثبات دامغة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية