|
الافتتاحية في وقت بدأت تتكشف فيه خيوط وأبعاد ودوافع الحماقة التركية، وما تحمله من رسائل تبدو حمّالة أوجه وقابلة للتفسير المزدوج. أغلب التحليلات ذهبت باتجاه ترجيح حملة التهدئة من الجانب التركي.. بدءاً من البحث عن مخارج سياسية ودبلوماسية على حافة الهاوية أو فوهة البركان، لكن ما حصل كان مغايراً وربما مخالفاً لسياقات الحديث، وفي بعضها بدت استكمالاً لخطوات متزامنة في التوقيت ومنسجمة في المضمون، باعتبارها تنفذ دوراً ومهمة وظيفية لم تنفها تركيا، بل تشبثت بالعودة إلى الإمساك بها، سواء ما يخص أطلسة أزمتها أم أمركة ردود فعلها. فبعد ذهول اللحظة الأولى، حين بدت الرواية التركية متفاجئة بالحدث، على الأقل من جانب أردوغان وحكومته، أخذت خيوط الحماقة التركية تتجه نحو التصعيد رويداً رويداً، في سياق مقاربة كانت إلى حدّ بعيد تحاكي افتراضات ما سيجري لاحقاً، وحتى التعويل على الأطلسي بدا وكأنه غير محسوب بطريقة صحيحة، عندما اكتفى ببيان كان أقرب إلى الخيبة منه إلى الاسترشاد به، فيما كان الرهان على الأميركي في غير موضعه، وإن جرت بعض المقاربات التي تشي على الأقل من ناحية الاستنتاج بأن أميركا تدير التفاصيل بصورة حثيثة وبعيداً عن التكهنات أو الاستنتاجات. فالواضح أن أميركا لديها من الجزئيات ما يفوق أردوغان وحكومته، وأن المطلوب منه كان التصعيد الكلامي، بدليل أن اللهجة التي تعاطت بها أنقرة بدت أبعد ما تكون إلى المهادنة من دون أن تُغفل من السياق الإيحاء بما يليها من خطوات مكمّلة أو تابعة ولاحقة، بمعنى أنها لن تكون وحيدة أو منفصلة بحدّ ذاتها، بقدر ما هي حلقة وسيطة، وربما تمهيدية في خطوات تصعيد لاحقة وصلت في نهاية المطاف إلى التهديد والوعيد للروسي، والتي توّجها أردوغان بالتحذير من اللعب بالنار التي كررها في خطاب واحد أكثر من مرة!!. وهو ما اقترن بلجوء وسائل الإعلام الأميركية إلى مقارنة بين الإمكانات العسكرية التركية والروسية، في رسالة مزدوجة مفادها الأساسي أن المواجهة ثنائية بما تحمله من تأويلات قابلة للتفسير المزدوج، مع الغمز من قناة القوة الروسية للإيحاء بأنها إقليمية وليست دولية، وأن المواجهة في أسوأ حالاتها ليست بين قوة عظمى وقوة إقليمية، بل هي في مرتبة واحدة من ناحية التصنيف الأميركي الذي يتدخل كقوة عظمى - وبعقلية القطبية الأحادية - سيحتاج الطرفان إلى دوره ومشورته ربما كما يتوهم!! عند هذه النقطة، يمكن فهم التصعيد في الحماقة التركية على أنه تسخين بطلب أميركي، وأن الأطلسي لم ينتهِ دوره عند البيان، وأن الوعد الأميركي لتركيا قاطع بأنها لن تبقى في مفردها في الميدان. الصدمة المزدوجة كانت في الرد الميداني الروسي كما هو في السياسة - الإجرائي والتنفيذي- الذي أوصل الرسالة مباشرة إلى أميركا قبل تركيا بأن المسألة ليست صراعاً ثنائياً بقدر ما تعكس رؤية تحالف وجبهة متصلة، حيث تركيا لا تتصرف من قرارها الذاتي، بل تتحدث باللسان الغربي والقسم الأكبر منه أميركي بحت، وبالتالي فإن تغيير قواعد الاشتباك لا يقتصر على تركيا، بقدر ما يشمل كل التطورات في المنطقة.. وإن اقتضت الحاجة فهو أبعد. وجاء التوصيف الأميركي للحادث.. والأخطر كونه اعتبر استهداف مظلة الطيارين الروس دفاعاً عن النفس، كتحدّ للمشاعر الروسية وللوجدان الروسي في قرينة دامغة على منحى المواجهة، فيما تدحرج التصعيد التركي كان تنفيذاً لتعليمات أميركية واضحة، انطلاقاً من فهم معنى الدعوة الغربية إلى ضبط النفس وحلّ المشكلة بالقنوات الدبلوماسية التي تجاريها على المنابر لغة سياسية تركية مغرقة في حماقتها وتهورها. فالخطأ التركي ليس منعزلاً عن منظومة أنتجته وورّمته إلى حدّ الاستطالة المرضية، بل متلبّس بخطأ غربي وأميركي أكثر وضوحاً، فاللعب مع الكبار لا يكون على حدود المواجهة أو مساحتها، بقدر ما هو على إحداثياتها، وما تفرزه من اصطفاف سياسي بدا جلياً أنه يتم على حساب النفوذ الأميركي، ومن رصيد حلفائه المقربين منه والأساسيين قبل التابعين والأدوات، بما تعكسه حروب الوكالة الأميركية من نهايات مفجعة. إن روسيا التي تدرك حجم محاولات الاستفزاز الغربي لا تكتفي بردود على وكلاء الحرب الأميركية ولو تزعموا وتصدروا جبهات المواجهة، بقدر ما هي مع الأصلاء الذين يرفضون التنسيق، فالوكلاء - بسقوف حماقتهم المفتوحة- في الحروب بنسختها الافتراضية أو الواقعية ليسوا سوى فرق حساب لا قيمة لهم...!! |
|