|
فضاءات ثقافية
وصارت متاحة للاطلاع، وتحديداً وثائق الخارجية والاستخبارات البريطانية فيما يخص التعامل مع الحركات الراديكالية والأصولية في العالم الإسلامي كله من الهند وباكستان إلى إيران، ومروراً بدول الخليج العربي والعراق وسورية ومصر والسودان ثم دول الشمال الإفريقي، ليس هذا فقط بل يمتد التعامل البريطاني «السري» إلى منطقة البلقان. يرصد الكتاب التعاملات السرية البريطانية في العالم الإسلامي كله منذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، ولما فقدت بريطانيا قوتها العظمى وتراجعت مع حرب السويس عام 1956، تحولت أجهزتها السرية بخبراتها إلى منفذ للعمليات «القذرة» لصالح القوة العظمى الجديدة، الولايات المتحدة، ولذا فإن المؤلف لم يقف في عمله أمام الوثائق البريطانية فقط وإنما ذهب إلى الوثائق الأميركية متابعاً وباحثاً. أنظمة ونماذج يثبت الكتاب بوضوح تام أن بريطانيا تعاملت مع كل الأطراف، ولعبت على كل الأطراف، النموذج الأبرز لذلك هو ما فعلوه مع الثورة العربية الكبرى عام 1916 وزعيمها الشريف حسين، حيث منّوه في البداية بحكم الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق، ثم انقلبوا عليه في لحظة، لم يكن يعني بريطانيا مصالح أي بلد ولا القيم التي تمثلها ولا حتى الحرص على نموذج سياسي معين، كان يهمها أولاً وأخيراً المصالح البريطانية، ومن ثم ليس صحيحاً ما يتردد عن أن بريطانيا ودول الغرب عموماً تتبنى النموذج الليبرالي والعلماني في الحكم، حاربت بريطانيا الأنظمة القومية والوطنية والنماذج العلمانية في أي بلد إذا كانت تهدد مصالحها، والدليل أنهم في مصر حاربوا بضراوة سعد زغلول وحزب الوفد بينما دعموا جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها المؤسس حسن البنا، وكان الدعم سياسياً ومالياً. وطبقاً للوثائق فإنه منذ عام 1941 بدأت اللقاءات المنتظمة بين الاستخبارات البريطانية وحسن البنا، حدث ذلك على الرغم من أن سعد زغلول ومن بعده النحاس وحزب الوفد عموماً كان يتبنى أيديولوجية قومية وطنية، ويسعى نحو الليبرالية والعلمانية، لكن بريطانيا رأت هذه الأفكار تهديداً لوجودها ومصالحها في مصر ودول المنطقة، وتكرر ذلك فيما بعد مع عبد الناصر، حيث حاولوا اغتياله مرات عدة، وفعلوا الشيء نفسه مع سوكارنو في أندونيسيا، وغيرهما من الزعماء الذين يتبنون أفكاراً قومية وطنية وعلمانية. توظيف واستغلال لا يذهب المؤلف إلى أن الجماعات الأصولية من اختراع بريطانيا العظمى، لكن بريطانيا استغلت هذه الجماعات ووظفتها لصالحها، وإذا كان هناك حديث في الغرب حول خطر الإرهاب الإسلامي، فإن الواجب يفرض القول إن بريطانيا ساهمت في صناعة هذا الخطر ومنحه فرص النمو حتى انقلب عليها وعلى دول الغرب وحدث ما حدث في 11 أيلول 2001، يرصد الكتاب علاقة بريطانيا وأجهزتها السرية مع أسامة بن لادن، حيث سعى الزعيم السوداني حسن الترابي لتسليم ابن لادن إبان وجوده على أرض السودان، لكن بريطانيا رفضت بشدة، وطلبت تركه مطلق السراح، فقد كان لا يزال يقوم بأدوار تخدم سياساتهم ومشاريعهم. ساعدت الاستخبارات البريطانية حركة طالبان في أفغانستان، وساعدت تنظيم «القاعدة»، وعلى الرغم من تهديدات ابن لادن للدول الغربية بقيت لندن مفتوحة أمام رجال هذا التنظيم وبعلم الاستخبارات البريطانية، حيث كانت بريطانيا ترى أن أفراد هذا التنظيم يمكن استغلالهم في الضغط على بعض حكومات المنطقة، كما يمكن الاستفادة بهم في حروب العصابات والعمليات القذرة التي لا تحب الحكومة البريطانية التورط مباشرة في ممارستها، وهو ما حدث في منطقة البلقان، كوسوفا وصربيا وفي بعض البلاد الأفريقية، حدث هذا على الرغم من أن بعض الجهات في بريطانيا حذرت ونبهت إلى خطورة وجود هؤلاء الأفراد في لندن، ومنحهم مكاتب للعمل من خلالها. يتوقف المؤلف مطولاً عند أفغانستان، حيث لعبت بريطانيا دوراً خطيراً، وساعدت حركة طالبان في البداية ومولتها ثم انقلبت عليها وتعاملت مع كل الأطراف هناك تقريباً بمنطق «فرق تسد»، ونجحت هذه السياسة التي انتهت بأفغانستان على النحو الذي هي عليه الآن. لم يضع المؤلف هذا الكتاب حرصاً على المصالح والقضايا العربية، لكنه مشغول بإثبات أن الحكومات والسياسات البريطانية كانت تقوم بدور غير أخلاقي وضد مبادئها المعلنة، وكانت في ذلك تخدع الرأي العام والمجتمع البريطاني. |
|