|
شباب قد يتبادر إلى ذهن البعض لدى ذكر كلمة «التعليم» صورة صفّ و مدرِّس و طلّاب, و ربما ترتبط كلمة «التعلُّم» بحالة ذهنية تشبه الحالة الذهنية التي تحفّزها (وتجذبها) كتب من قَبيل ’تعلَّم الإنكليزية في خمسة أيام‘ أو «تعلَّم قراءة أفكار الآخرين» أو «كيف تُنشئ علاقة طيبة مع أبنائك المراهقين» حيث تعرض مثل هذه الكتب خطوات بصيغة توجيهات مقتضبة, و ربما مرقَّمة, تشبه توجيهات تحضير قالب حلوى, يُلَقَّن من خلالها «طالب العلم» طريقة أداء أمرٍ ما! إن التوصيف السائد للتعلّم هو كونه العملية التي يكتسب المرء من خلالها العلم, و هو توصيف لطريقة عمل خاطئة تركت آثارها الكارثية في أذهاننا منذ الصغر, إذ إنها تَحُدُّنا –لا واعين– بحالة ذهنية مؤقّتة نكون فيها مجرد متلقِّين صُمٌّ عُميٌ على أمل أن نؤدي المهمة –مجبَرين– و ننهي هذه العملية بأقل وقت و جهد ممكن, فيكون تعاملنا مع الحالة الذهنية للتعلّم تشبه تعاملنا مع جسم ثقيل نرفعه بصعوبة عن الأرض لنحرّكه مسافة قصيرة و لا نلبث أن نرميه مُنهكين. يجب أن نركّز في مسألة التعلّم على الحالة الذهنية بصفتها حالة دائمة يكون الذهن فيها منفتحاً لإدراك المعنى من تجارب الحياة –من المسائل الكبيرة إلى تفاصيل الأمور الصغيرة – فالانتقال إلى حالة التيقُّظ الدائم هو الثورة الأعظم, يقظةُ الذات, و التي من بعدها يُدرَك المعنى في كل مكان و وقت من بعد خفائها و ذلك بالقدر الذي يكون فيه المرء منفتحاً لها. ولا يقتضي الانفتاحُ الجهدَ و الكدَّ لأنه حالة وجودٍ طبيعية غير مُفتَعَلَة أو مؤقتة أو مَقصورة على الكتاب المدرسيّ المقرَّر, فالمركز هنا هو الفرد و سبل تفكيره و إدراكه للأمور. و إن المنطلق الأساسي نحو فهم أفضل للتعلُّم هو متابعته لآليات تعامل عقله مع تجارب حياته بما فيها المقررات المدرسية أو تعلم لغة جديدة أو مواجهة مشكلة اجتماعية معينة, و بالتالي القدرة على إدراك مصدر المشكلة و تغيير طريقة التعامل تلك تغييراً جذرياً. يقول جِدُّو كريشنامورتي: «إن فهم الحياة هو فهم أنفسنا, وذلك هو بداية التعليم و نهايته.» إن أفضل الآباء على سبيل المثال هم القريبون من أبنائهم, الجاهزون دائماً لتعلم صيغة التعامل المناسبة مما يختبره أبناؤهم وفق خصوصيات كل حالة يمرون بها, أولئك هم القادرون على إيجاد الحل أنفسَهم بدلاً من اللجوء إلى تعليمات جامدة دون أن يروا و يدركوا ما يحدث. فالتصرف الأفضل هو وليد اللحظة واليقظة الدائمة و لا حاجة لمرشد أو معلم في ذلك. إن ما ندرسه في الصف من أعمال العظماء في الأدب و الفن والعلوم ما هو إلا لإطلاعنا على سبل تفرُّد أصحابها في الوعي و التيقُّظ للتعلُّم في كل تجارب الحياة. و ما يجب أن نكتسبه منها هو الإبداع و الفكر الحر, فهي في ذلك قدوة الأجيال, و ليس في كونها نتاجاً يُقال إنه عظيم فيوَجّب ذلك علينا حفظه عن ظهر قلب كأنما هو منزَّل من إلهٍ, لكن دونما إدراك لجوهره و اكتساب للحالة الذهنية و الروحية لصاحبه. إننا لا ننفي مضمون كتب التطوير الذاتي و تعليم أداء الأمور بنجاح و لكن إغفال غالبيتها للفكر القادر على إبداع الحلول هو استخفاف بالقارئ, و إن التعامل مع تلك «التعليمات» على أنها خلاصات سرية منزلة هو ما يجردها من أي نوع من الفائدة. وقد لا تكون العلّة في الكتاب أو المعلومة و إنما في طريقة تعامل المستقبل معها, فكلما كان مستقلاً في فكره متيقّظاً لما يتلقّاه و آليات تفكيره به ازداد مدى نفعه منه, ذلك حال الحياة بأسرها. تلك اليقظة هي طريقة حياة و إن تربيتها في ذهن و روح الإنسان منذ طفولته هو الهدف الأصل لقيام المدارس و سبل التعليم الجماعيّة و التي خسرت في غالب الحالات هدفها و باتت بلا معنىً حقيقي, فالمدرسة الأصل هي الحياة ككلّ و ما المعلّم إلا مساعدٌ في لفت انتباه الطالب لها. يقول جِدُّو كريشنامورتي: ”عليك أن تفهم الحياة بأسرها و ليس مجرد جزء منها و حسب. لذلك عليك أن تقرأ, و لذلك عليك أن تنظر إلى السماء, و لذلك عليك أن تغنّي و ترقص و تكتب القصائد و تعاني و تفهم, فذلك كله هو الحياة.“ هذا يعيدنا إلى فكرة الانفتاح و التيقظ الدائمَين من أجل تلقي المعنى من مختلف مجالات الحياة و النشاط الإنساني. نأخذ مثالاً على سوء التعلّم و الحالة الذهنية للمتعلم المحاولات الفاشلة للكثيرين في تعلم لغة أجنبية يتعاملون معها كما تعوّدوا في صغرهم على أساس الحفظ المجرد من الفهم أو الوعي لما يحفظونه, و عدم التيقّظ للمشكلة في هذه العملية و الذي ينتج عنه التكرار للمشكلات ذاتها دون أي تغيير في النظر إلى الأمر برمّته. إذا كان المرء متيقّظاً خلال محاولته للتعلّم سيكتشف أن تعلم اللغات يقتضي مرونة ذهنية تحتوي الاختلافات اللغوية بين اللغة الأم و اللغة الجديدة, و إذا كان متيقظاً لنفسه سيحاول متابعة سبل تعامل ذهنه مع تعلّم اللغة (إذا ما كانت تشبه حفظه لدرس تاريخ في المرحلة الابتدائية مثلاً), وإذا كان متيقظاً للحياة من حَوله سيجد أن أفضل طريقة لإتقان لغةٍ هو اكتساب الطريقة التي يتعلم فيها الأطفال لغتهم الأم. لا سبيل إلى التعلّم إلا مما ترسمه الذات من خلال ما تدرك و تفهم, و ما سوى ذلك إلا مساعدة خارجية لإدراك هذه الحقيقة الداخلية. |
|