|
ثقافـــــــة إن محاولة الرؤيا هي انتصار للإنسان، إذ من غير الممكن أن يعرف أحدنا كيف يصيغ مستقبله، وهو لا يملك إمكانية استشرافه أو العمل على رؤية ما يمكن أن يحدث غداً. واستشراف المستقبل، يكون عبر قراءة الماضي، وفهم إمكانياته، بهدف خلق مستقبل يتناسب والغايات التي يطمح المرء إليها. الماضي موجود بكل حيثياته وتفاصيله، إنه الكتلة التي يبنى عليها الحاضر والمستقبل، وإن قراءة الماضي قراءة دقيقة، ومن ثم التحكم باللحظة الحاضرة، يؤدي إلى مستقبل معروف الأفق والغايات. يقوم العالَم على قانون الضرورة وليس المصادفة، وهذا القانون يبين لنا أن كل تفكير وكل حركة وفعل نقوم به في اللحظة الراهنة، سيؤدي إلى تغير محسوب في المستقبل، وبالتالي فإن كل ما نقوم به الآن، سيكون له نتيجة مستقبلية، وهذا كلام أرسطوي قديم: المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج صحيحة. وكذلك فإن المقدمات الخاطئة ستؤدي – بالضرورة - إلى نتائج خاطئة. استقراء المستقبل لا يكون عبر الأحلام، بل بالعمل الجاد الهادف إلى بناء الإنسان الصحيح وبناء المجتمع المتطور على الصعد كلها. ولا يمكن أن يحصر المستشرف أفكاره في دهاليز الماضي، وثقافة الزمان الغابر، لأنه بذلك يكون قد قضى على أي أمل في التحرر من ربقة الثبات وسجن التأخر والسكون. المستشرف هو ذلك الإنسان الواعي لهموم مجتمعه والعارف لأمراضه، والرافض لسلبيات واقعه. ولأن المستقبل ليس كتلة ثابتة كما الماضي، فإن السعي إلى تغييره إلى الأفضل يشكل إحدى الركائز الإيجابية للنجاح في العمل. المستشرف هو ذلك الباحث في تفاصيل المجتمع، هو الرائي لما يجب أن يكون من خلال ما تم في الماضي، ومحاولة تغيير الوجهة بما يتناسب مع مصلحة الفرد ضمن الجماعة. الاستشراف لا يعني التنبؤ، إذ إن الاستشراف يقوم على خطة مستقبلية منافية للعشوائية، منطلقة من أرض الواقع الفعلي، وليس من آمال وأحلام. ما أفعله اليوم هو بالضرورة سيحدد ما سأكون عليه في الغد. وهذا يعني أن وجود الشيء في الزمن القادم هو رهن بما أقوم به الآن، وما قمت به في الماضي. لا يمكن الركون إلى قراءة مسبقة للواقع الاجتماعي أو الثقافي، لأن الزمن متغير، وعليه فإن التغير الدائم في استقراء المستقبل، يفضي إلى نتائج جد إيجابية، ويحفز الأفراد الفاعلين على الفعل الدائم وتغيير رؤاهم حسب طبيعة المرحلة والظرف والهدف. يقع المستشرفون، عادة، تحت مطرقة الكراهية والنبذ، لأنهم لا يوافقون على السلوكيات والثقافات السائدة، ولأنهم – في منظورهم التطوري – يرون أن التغير هو أساس كل عملية مستقبلية، ويعتمدون المنهج النقدي الصارم في التعامل مع النظريات السائدة والأفكار المعلبة. تحتاج الثقافة الحالية إلى نقد فعال، وإلى بناء نموذج جديد يحمل في طياته متغيرات أساسية، ويدفع المجتمع إلى عدم الوثوق بالأشكال السائدة والقوانين المتآكلة غير المرنة. فالثقافة – وككل البنى الاجتماعية الأخرى – تحتاج إلى رؤى استراتيجية وخطط مستقبلية، وليس إلى تنبؤات لا تستند إلى أساس علمي. يعتمد الاستشراف على مناهج علمية متسارعة في التطور، وهو جهد علمي فكري مبني على أسس كمية ونوعية، ولذلك فمن الطبيعي أن يقوم مفكر كابن خلدون بصياغة نظرية في العمران وتشكل الدولة وانهيارها. وهذا أيضاً ما دفع هيغل إلى الإيمان بأن السيرورة التاريخية لا يمكن أن تتواصل إلى ما لانهاية، وإنما لا بد أن تنتهي بفعل إنجاز تحققه المجتمعات الحرة في العالم الواقعي. المستقبل ليس كتلة ثابتة ومستقرة، وهو متغير بتغير أمواج الحاضر، وعلى المؤسسات كافة رسم خطط استراتيجية تؤمن للأجيال القادمة أساساً متيناً لبناء مجتمع أفضل، يقوم على تعدد الأفكار والرؤى. |
|