تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مكتبة في دمشق

إضاءات
الثلاثاء 17-11-2015
سعد القاسم

كان ذلك في مطلع صيف 2004، كنا بضعة عشر صحفياً وأديباً وأستاذاً جامعياً في زيارة دولة عربية ثرية نتجول مع مضيفينا الفخورين في أقسام مؤسستهم الثقافية الباذخة فلما وصلنا إلى قسم ترميم المخطوطات قال محدثنا بتباه إن هذا القسم هو أهم قسم من نوعه في المنطقة، بعد قسم الترميم في....مكتبة الأسد..

في تلك اللحظة تحول الشعور بالفخر إلينا نحن، وإن كانت لياقة اللحظة قد منعتنا من التعبير عنه، لكنه كان روح الحديث الذي دار بيننا بعد ذلك. وفي وقت لاحق حين حدثت السيدة الدكتورة نجاح العطار بالحكاية متوقعاً ردة فعل سعيدة، فوجئت بابتسامتها الوقورة توافق على ما قلت، مضيفة عليه معلومة تجاهلها الأشقاء:‏

- «لقد قمنا بتدريبهم في مكتبتنا».‏

لا أعلم على وجه اليقين ما الذي ذكرني حينذاك بحكاية ثانية في بلد عربي مترف، حين انتحى بي جانباً معاون مدير مؤسسة ثقافية فارهة متمنياً عليّ بذل جهدي من أجل دعوة رئيسه،وهو الاسم اللامع في بلده، للتحدث في المهرجان الثقافي المرافق لمعرض مكتبة الأسد للكتاب، سارداً علي المناسبات العربية الوفيرة التي كان فيها رئيسه ضيفاً محاطاً بالاهتمام. وبدا واضحاً أن معاون المدير لم يبادر إلى هذا الطلب من تلقاء نفسه، خاصة بعد أن أسر لي صديقٌ بأن تلك أمنية عزيزة للمدير، وأنه هو (الصديق) من أحال المعاون إلي. ومع ذلك كان في طلبه ما يضيف دهشة إلى الدهشة التي انتابتني وأنا أرقب مظاهر الفخامة والبذخ والتعالي التي حرص المدير على إظهارها في كل لحظة، وفي كل تفصيل صغير من سلوكه وحديثه، فهل وجد أن كل هذا لا يعوض حضوره في دمشق؟‏

منذ عقود مديدة اعتاد السوريون على ما يجده غيرهم، أو بعض غيرهم، استثنائياً ومدهشاً، ولذلك كثيراً ما تحدث الزوار الإعلاميون و(الثقافيون) لسورية عن الجمهور السوري الذي يمنح المناسبات الثقافية حيوية خاصة، وقد يصبح تفسير ما سبق أكثر وضوحاً بالمقارنة مع حالات مألوفة في بعض البلاد العربية، فقد حضرت ذات مرة معرضاً غنياً للكتاب في بلد عربي غني، ولم أستطع منع نفسي من المقارنة بين العدد الضئيل للزوار فيه، رغم إن القيمة المالية للكتاب في ذلك البلد لا تشكل شيئاً يذكر من الدخول العالية لأبنائه، وبين الازدحام الهائل الذي كان يشهده (معرض الكتاب) في مكتبة الأسد، ما اضطر منظميه لنقله إلى مكان أكثر اتساعاً، وفي مناسبة ثانية كنت وباحثة لبنانية ضيفين في (استوديو) زجاجي ضمن معرض تشكيلي عملاق يوم افتتاحه في إحدى المدن العربية، ولمدة ساعتين متتاليتين لم نر في المعرض سوى بضعة زوار لا يتجاوز عددهم بأحسن الحالات عدد أصابع اليدين..‏

ومن أقصى المغرب العربي جاء يوماً إلى (مكتبة الأسد) مفكرٌ عربي مزهو بشهرته وعدد مريديه، فلما بدأ الحوار مع الجمهور الشاب الذي ملأ قاعة المحاضرات، تحول المفكر الكبير من أستاذ إلى محاورٍ متواضع يدافع عن أفكاره وقناعاته، بعد أن كان يعرضها كنصوص غير قابلة للنقاش.‏

لم تحتضن (مكتبة الأسد) معرض الكتاب فقط، والأنشطة الثقافية المرافقة له، فهذا الفعل، رغم أهميته البالغة، جزء صغير من عملها ومهامها، فهي أولاً وأساساً المكتبة الوطنية السورية، بأكثر الأشكال تطوراً ومواكبة للعصر، وهي بذلك تطوير وامتدادٌ للمكتبة الوطنية التاريخية المتمثلة في (المكتبة الظاهرية) في دمشق، ومقرها (المدرسة الظاهرية) التي أنشأها (الظاهر بيبرس) في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والتي جمعت مقتنياتها من مصادر متعددة منها مكتبات الوقف الإسلامي التي كانت منتشرة في العصور السابقة، حيث كانت المكتبة تابعة للأوقاف الإسلامية قبل أن تلحق بالمجمع العلمي العربي (مجمع اللغة العربية حالياً) الذي تأسس في دمشق سنة 1919 وكان مقره (المدرسة العادلية) الملاصقة لـ(المدرسة الظاهرية)، وفي عام 1983 أصدر الرئيس حافظ الأسد المرسوم القاضي بإحداث مكتبة وطنية في دمشق فتم وضع دراسة شاملة لإنشائها بالتنسيق مع منظمة (اليونسكو) و (الاتحاد الدولي للمهندسين المعماريين)، ووضع حجر الأساس لبدء العمل عام 1987 وسلمت التصاميم التنفيذية لمؤسسة الإسكان العسكري التي قامت بتنفيذ البناء اعتماداً على الخبرات الوطنية.‏

مكتبة الأسد التي احتفلنا أمس بالذكرى الواحدة والثلاثين لتدشينها تمثل اليوم جزءاً أصيلاً من المجتمع السوري، وامتداداً لفكرٍ نهضوي يقّدر الثقافة ويعمل على تعميمها وترسيخ حضورها .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية