تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«الباب العالي» ..مرحلة تجاوزها الزمن !

شؤون سياسية
الثلاثاء 13-11-2012
محمد عبد الكريم مصطفى

من يُراقب سياسات الحكومة التركية هذه الأيام يعود بالذاكرة إلى مرحلة ماضية تجاوزها الزمن ولم يعد لها معنى إلا في حكايات الجدات التي ترتبط بحقبة تاريخية سوداء مليئة بالتناقضات السياسية والاجتماعية والدينية من حياة الخلافة العثمانية ،

وإن تكرار التاريخ ليس إلا محاولة غبية يفعلها الجهلاء لاجترار الأحداث بطريقة هزلية بعيدة عن منطق التطور الطبيعي للمجتمعات ، فهؤلاء غير قادرين على إحياء الماضي مهما طبلوا وزمروا ، ولا هم بقادرين على صناعة الحاضر والمستقبل لمنطقة من أهم مناطق العالم ، لكنهم بجهلهم هذا سيُشوهون الصور الجميلة القليلة من هذا التاريخ ، وفي النهاية سيلفظهم التاريخ كما أجدادهم ، وتضيع عليهم فرصة ترميم السمعة السيئة التي لحقت بهم قرونا من الزمن والتي كاد عامل النسيان أن يودعها في قبور المُخطئين .‏

لقد ملَّ الشعب التركي سياسة الكذب والتسويف والوعود المؤجلة منذ عقود مضت وهو ينتظر نعمة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي التي لم تجد طريقها إليه رغم كل ما قدمت حكومات تركيا المتعاقبة من تضحيات وتحولات في أدبيات وسلوك الشعب التركي وعاداته وغير ذلك من أمور فرضتها طبيعة معركة الانتماء لهذا المكون الساحر ، لكن الفشل في حصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي هو النتيجة الدائمة بسبب غالبيتها المسلمة ، في المقابل وفي خطوة تراجعية لافتة للسياسات التركية السابقة ، صفق الشعب التركي طويلاً لسياسة الصفر مشاكل مع الجوار التي وعد بها حزب العدالة والتنمية كخيار استراتيجي لمستقبل تركيا البديل ، ولم يُخف الجمهور التركي كذلك سعادته عندما شاهد رئيس وزرائه يقود أوركسترا مسرحية التنصل من العلاقات الحميمة مع الكيان الصهيوني الذي يغتصب جزءاً مقدساً من الأراضي الإسلامية ، وقد اكتملت البروبغندا عندما وضع أردوغان يده بيد القيادة السورية لصياغة واقع جديد لمنطقة الشرق الأوسط يُلبي طموحات شعوبها ، ولذلك لاقت عملية التحول الايجابي السريع في العلاقات مع سورية الجار القريب تأييدا واسعا في الشارع التركي على أمل التخلص من عدة ملفات مشتركة كانت مجمدة ومُقلقة وجدت طريقها إلى الحل وأعطت ثماراً أهمها تحسن الحالة الاقتصادية المتردية التي يُعاني منها الشعب التركي لعقود طويلة ، وما أن تنفس الأتراك الصعداء حتى وجدوا حكومتهم تُدخلهم من جديد في نفق الصراعات الجانبية مع دول الجوار وخاصة سورية التي كانت بالنسبة لهم المتنفس والأمل في الانفتاح على العالم العربي كشريك موضوعي في زمن صراع الحضارات .‏

إن السياسة التي اعتمدتها ولم تزل حكومة «أردوغان » تجاه سورية منذ بداية الأزمة السورية كانت مُحيِّرَة في الكثير من جوانبها ، في الوقت الذي حصلت فيه هذه الحكومة من سورية على الكثير الذي لم تكن تتوقعه ، انقلبت بسرعة مذهلة على علاقاتها مع القيادة السورية لتنخرط في المخطط الأمرو – صهيوني المعد لتفتيت المنطقة وإعادة ترتيبها وفق أجندة جيوسياسية جديدة تُلبي متطلبات السيطرة الكاملة على مكامن الطاقة والغذاء في العالم ، وعلى الرغم من أن المشروع الاستعماري الجديد لن يستثني تركيا التي تمتلك تركيبة ديموغرافية غاية في التعقيد والتباين في الفكر والدين والسياسة ، وإن الخطر الذي يُحيط بمستقبلها يفوق الأخطار التي تُحيق بالدول المجاورة لها بكثير لكن تحريك اللعبة في تركيا يبدو مؤجلا لأسباب تكتيكية فقط ، ومع ذلك وضعت حكومة أردوغان رأسها في الرمال وكشفت عن نواياها المبيتة بكل اتجاه من العراق إلى إيران ومن ثم أومأت بيدها الغادرة للمشروع التخريبي للمرور على جسدها من أجل تدمير سورية الحليف الافتراضي لها ، حقيقة إنها سياسة النعامة التي لا تستطيع رؤية الأرض من تحت أقدامها !‏

بعد أكثر من عشرين شهراً متواصلة من عمر الأزمة السورية ، والدور السلبي العلني الذي لعبته الدبلوماسية التركية منذ البداية ، وجدت الحكومة التركية نفسها في مواجهة غير منطقية مع سورية ، فلا هي تستطيع إسقاط سورية بهيكليتها الإدارية الصلبة ، ولم تتمكن من جر حلف الناتو لضرب سورية من خارج الأمم المتحدة لأسباب تتعلق بتركيبة النظام الدولي الجديد من جهة ، وما تُعاني منه دول حلف الناتو من أزمات مالية واقتصادية تجعل أولوياتها بعيدة عن مواجهة دولية كبرى أو الانجرار إلى حرب عالمية في هذه الظروف الدولية المعقدة من جهة أخرى ، لنُفاجأ بقائد الأوركسترا الفاشل يعزف خارج المسرح وكأنه لم يقرأ الواقع بأن الرئيس الأسد باقٍ رغم أنف الحاقدين وأي تسوية لن يُكتب لها النجاح إلا تحت سقف الرئيس الأسد ، وهذا ما فهمه أسياد أردوغان وأقروا به رغم مرارة الخيبة التي وصلوا إليها ، وقرار تسمية الرؤساء في سورية انتهى منذ أكثر من نصف قرن ، وخاصة في ظل تنامي الفكر المقاوم للاستعمار في منطقة الشرق الأوسط وبشكل أساسي عند السوريين .‏

لقد تلقَّت الحكومة السورية الغدر الرسمي التركي بكثير من الصبر ، ليس خيفةً من تبعات رد الفعل المقابل ، بل حرصاً منها على استمرار أحسن العلاقات الودية مع الشعب التركي الذي تربطه بالشعب السوري أواصر قربى وعلاقات اجتماعية متنوعة وقديمة ، و تُريد الحكومة السورية الحفاظ على هذه العلاقة وتطويرها بما يخدم مصالح الشعبين ، وأن الواقع الشعبي في الداخل التركي أصبح أكثر وعياً لما تُخطط له حكومة العدالة والتنمية ، وخرج إلى الشارع مُؤكداً رفضه الكامل لهذه السياسة المتهورة والتي لا تنسجم مع المصالح الوطنية التركية . ومهما تمادت حكومة العدالة والتنمية في غيها فلن تستطيع جر السوريين لمواجهة مع تركيا في الوقت الذي حددت فيه سورية عدوها الأساسي في هذا العالم وهو الكيان الصهيوني وأدواته على الأرض من عناصر الإرهاب الدولي ، وانطلاقاً من ذلك نؤكد بأن مستقبل سورية لن يُحدده إلا السوريون أنفسهم ، وإن الحكومة السورية لم تُغلق في أي يوم من الأيام أبوابها في وجهة المبادرات الطيبة التي تحمل حسن النوايا في مساعدة الشعب السوري لتجاوز أزمته وحقن دماء السوريين ، وكانت قد استقبلت سابقاً جميع المبادرات بصدرٍ رحب ، لكن الغدارين حاملي الأجندات المسبقة الصنع كانوا أكثر فاعلية من أصحاب النيات الصادقة ، ومع هذا ستبقى سورية منفتحة على جميع المبادرات الخيِّرة ضمن إطار الخطوط الحمر من السيادة والاستقلال وحصرية الحل النهائي في أيادي السوريين أنفسهم .‏

Email:m.a.mustafa@mail.sy

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية