|
ملحق ثقافي إنّه الآن مُتْعَبٌ لِبُعْدِهِ عن الشّغف المعشّش في خلاياه. أمامه تأخذك الألفة بعيداً فتنسى الأسئلة.
عبد الكريم يحيى بد الكريم.. النّشيد الجميل مثل صباح جديد في حمص وُلِدَ الشّاعر، وتعلّم في مدرسة المثنى بن حارثة الشيباني، هناكَ شَده التاريخ وأخذتْه اللغةُ وأبعدته عن مجال الهندسة التي أبدع فيها. حول تجربته الشّعرية كان لنا معه هذا الحوار: *متى بدأ الشاعر عبد الكريم يحيى عبد الكريم مسيرته الشعرية؟ **في كوكبٍ أزرق نائم بين حمامات «البرت الأحمر ـ وهي مقبرة مقدّسة في المدينة» نامت قصيدتي هناك، في قلبٍ كلُّ بضاعته ورقٌ والوجوه التي يحتوي ورق. لقد أيقظت روحي يا سلام.. روحي الغريقة بالغمام التائه. كيف لي أن أستعيد فراشاتي هناك... أن أطير مع إخوتي وأخواتي في الضّباب الذي يغشى المدينة المعلّقة بدمعي والمربوطة بمرايا الرّوح المتعبة. يمكنني الآن أن أبوح لها قائلاً: يا من سقاك الحلم، نوّميني بين أصابعك الحجرية وهدهديني فأنا مُتْعَبٌ ومُتْعِب. لا تتركيني بعيداً عن السمر.. عن حديث كان بأضلاعي مغيّباً. هكذا أخي سلام بدأت مسيرتي مع الشّعر وأنا أخطو مع الطفولة إلى الصبا الغضّ. أذكر أنّ أوّل قصيدة كتبتها كانت عن فصل الرّبيع وكنتُ حينها في الرّابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمري. كانت قصيدة تقليدية لا تتجاوز أبياتها سبعة أبيات ولا أزالُ أذكر مبتسماً هذين البيتين منها: هو الرّبيع للدّنى يؤوبُ/ فالأرضُ مرجُ سندسٍ قشيبُ وسائلٍ عن الجمال.. سرِّهِ/ وأين يلقى مَنْ له يجيبُ سقى الحبّ تلك الأيَّام التي عبرتْ قبل أكثر من ثلاثين عاماً. *لماذا أصبحت شاعراً ولم تصبح رسّاماً مثلاً أو باحثاً في مكتب ما.. ولا سيمَّا أنّ دراستك الجامعيّة كانت علميّة.. ما الذي حرّضك على الكتابة؟! *لا تقل للشّاعر لماذا أصبحت شاعراً، أو للرّسام لم أصبحت رسّاماً؟ إنّها على ما يبدو مسألة تتعلّق بمورّثات الإنسان، وشخصيّته وكينونته ووعيه الذي يتفتّح على بيئة معيّنة وأهلٍ معيّنين وزمانٍ معيّن.. مسألة تتعلّق بالفضاء الذي ينمو فيه الإنسان ويكبر ويزهر مثل شجرة. لقد تفتّح وعيي على بيئة شعبيّة وأهلٍ يقدّرون الموروث الشّعبي والشِّعر الشّعبي خاصة؛ يتداولونه فيما بينهم ويتوارثونه شفاهاً من جيل إلى جيل. لم يكن أبي رحمه الله شاعراً.. لكنّه كان يحفظ منه الكثير.. ولا سيمَّا المواويل والعتابات والميجانات والشّروقيّات بأنواعها المتعدّدة، وكان يميّز السَّليم من المكسور والجيّد من الرّديء، وكان يحتفي بأصدقائه من الشّعراء الشّعبيين «كالحاج محمود الحسواني وهو معروف جيداً في المنطقة، وأبي نايف العباس رحمهما الله»، وكان يقيم لهم في بيتنا سهرات شعريّة جميلة كنتُ أحضر معظمها وأنا في أوّل الصّبا. كذلك أمّي لم تكن بعيدة عن الشعر، إنّها تحفظ الكثير من مواويل وأهازيج متفرّقة. هذه هي البيئة التي نشأت فيها. لقد كانت بيئةً شاعرةً بحقّ. أضيف إلى ذلك المدينة وعبقريّة تموضعها الجغرافيّ وعبقرية النّاس الذين سكنوها منذ غابر العصور. إنّها مدينة ساحرة بحجارتها السّوداء، وسيباطاتها المدهشة «تشعر أنّك قد دخلت إلى التاريخ وأنت تسير تحت أقواسها» كذلك بقايا الأزقّة الحجريّة التي تشعرك بحنان عجيب وتوقظ في روحك حنيناً مجهولاً إلى زمن غامضٍ وأرواح غامضة. كلّ هذا صنع مني شاعراً، ولم تكن دراستي العلميّة عائقاً عن ممارستي للكتابة الأدبيّة بل ربّما كانت محفّزاً لها. والجمع بين العلم والأدب أمر ليس بجديد. ويحضرني هنا اسم الدكتور المرحوم عبد الكريم اليافي، ابن مدينتي الذي أفتخر به. لقد كان جامعاً للعلم والأدب، رجلاً موسوعيّاً وعلاّمة وعلامةً بارزةً في تاريخنا المعاصر ـ رحمه الله تعالى. *ماذا ترى في الشّعر ولا تراه في الفنون الأخرى؟ **أرى في الشِّعر نشيدي الجارح، وأخشى أن يهوي صدري الكليل قبل أن أتمّ نشيدي الطّويل. تحضرني هنا قصيدة «هل» من مجموعتي الشّعريّة الأولى «ماس الميماس» حيث أنادي الشِّعْر: «هُمْ أحالوا دمَكَ المطلولََ طبلا جرّحوكا ذبحوكا بالحداثات التي ما أثمرتْ خوخاً تدلّى أنتَ.. كلاّ لستَ حُبّي أو حياتي أنتَ أحلامي بأحلى...» لقد جرّح كثيرٌ من الشّعراء شجرةَ الشِّعر ـ ولا أُبَرِّئُ نفسي ـ بحداثات كثيرة لم تكن إلا دوّامة فارغة. من جانب آخر وفي قصيدة ثانية من المجموعة نفسها «قصيدة خائن يا شعر، من مجموعة ماس الميماس» أتّهم الشِّعر بالخيانة. ربّما تستغرب هذا الأمر. أتّهمه بالخيانة من ناحية أنّه ينسى الشاعر الذي يضيّع قلبه وهو يكتب الشِّعر ويجري خلف صوره ومجازاته، والشِّعر ينساه كولدٍ عاق ويسبح في فضاءات بعيدة.. «في فضاءات طيورٍ وحبورٍ وعبيرٍ وحرير...». الشِّعر تعبٌ ولكنّه تعبٌ جميل. أَمَّا سائر الفنون فإنّ لي تجربة بسيطة في الفنّ التّشكيلي، ولكنني وجدتُ ذاتي في الشِّعر والكتابة الأدبية عامَّة. *ما العلاقة بين المدينة والشِّعر في تجربتك الشّعرية؟ **المدينة في تجربتي هي الأمّ العظيمة.. الأمّ المقدّسة بأزقّتها الحجرية وسيباطاتها الدافئة وبيوتها البلقاء ومتنزّهاتها الآفلة. هي كما أقول عنها في قصيدة «عاصمة الماء والزّيزفون ـ من مجموعة أصبح ليل»: «ما الذي سوف أكتبهُ ليديْها.. يَدَيْ زيزفونْ؟ ما الذي سوف أكتبهُ لمرايا دموعٍ وعينَيْ حنينْ لستُ إلاّ صغيراً على صدرها.. لستُ إلاّ جنينْ صعدَ الوجدُ يا أُمَّهُ.. رسمَ مَنْ تحفرينْ في الحجارةِ.. زرقاءَ.. مَنْ ترفعينْ؟!» *يبدو مستغرباً أن يصدر كتابك الشِّعري الأوّل عام 2005 وأنت على ضفاف الأربعين. لماذا تأخّرت في طباعة دواوينك الشِّعرية على رغم أنّ تجربتك تمتدّ إلى أكثر من ثلاثين عاماً؟! **كانت وراء ذلك معوّقات ذاتية تتعلّق بهمومي وشواغلي المتعدّدة، ومعوّقات خارجيّة تتعلّق بالطّباعة والنّشر وهمومهما؛ والبعد عن العاصمة التي هي بالضّرورة عاصمة الثّقافة والأدب. لا أدري كيف سرقني العمر من نفسي ووجدتني قد تجاوزت الأربعين من دون كتاب شعريّ مطبوع. لكنّ تأخّري عن الطباعة لا يعني أنّني كنتُ عازفاً عن الكتابة الشِّعرية. *ما موقفك من التّجريب في الكتابة الأدبيّة؟ **أرى أنّه لا بدّ من التّجريب الدّائم الذي يفتح أبواب الإبداع في فضاء مفتوح. لقد جرّبتُ كثيراً من الأساليب الشِّعرية المبتكرة - كما أعتقد - على صعيدي الشّكل والمضمون، ولديَّ محاولات عديدة في هذا الباب أذكر منها: - الكتابة الشّعرية بأوزان جديدة اخترعتُها سابقاً ضمن دراسة لي نُشرت في مجلة الموقف الأدبي وفي مجلة الآداب البيروتيّة عام 1986. - تجربة الأشطر الثلاّثة: من المعلوم أنّ شعرنا العربيّ الموروث يتميّز بكون البيت الواحد منه يتألّف من شطرين اثنين، لكنّي في هذه التّجربة ألتزم البيت المؤلّف من ثلاثة أشطر، وهو شكل جديد مختلف عن شعر التفعيلة وعن الموشّحات. - تجربة الكتابة من دون همزات. - محاولة كتابة أسطورة جديدة تحاكي شكل الأساطير القديمة. وسوى ذلك من التّجارب. سيرة ذاتية الشاعر عبد الكريم يحيى عبد الكريم وُلِدَ في مدينة حمص عام 1963. درس الهندسة المدنيّة. يكتب الشِّعر والقصّة والرّواية. صدر له: - ماس الميماس - شعر 2005. - دمع من تسكبين - شعر 2007. - أصبح ليل - شعر 2009. - الأصوات - قصص قصيرة 2010. تحت الطّبع: - عصفور في المدرسة ـ قصائد للأطفال. - كوكب أزرق - شعر. - الكرم العالي - رواية. |
|