تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ليف شيستوف المفكر المنسي المضاد للفلسفة

ملحق ثقافي
13/11/2012
حاتم حميد محسن/ لندن:اتّهام الفلسفة بالبعد عن الهموم اليومية هو اتهام قديم قدم الفلسفة ذاتها. طاليس الملتيسي اعتُبر أول فيلسوف ضاعت أفكاره حين جال في السماوات وتأمّلها كأنها تهوي في نفق صغير. الفلسفة تميل لدراسة النجوم بينما تتجاهل كلياً الأرض التي نعيش فيها.

‏‏

في القرن الماضي، بدأ بعض الفلاسفة الابتعاد عن الأفكار الكبيرة والمجردة والتوجه نحو العالم المحيط بهم.‏‏

يرى الكتاب الصادر حديثاً «مدخل إلى المضاد للفلسفة» للكاتب بوريس غرويس «Boris Groys»، أن الفلسفة أصبحت أكثر محلية في اهتماماتها وهي النزعة التي يطلق عليها «مضاد الفلسفة». Groys أستاذ الدراسات الروسية والسلافاكية في جامعة نيويورك والمعروف عالمياً ومؤلف كتاب «الفن الكلي للستالينية» يصف نزعة الفكر الأوربي في القرن العشرين في التحول بعيداً عن المواضيع العظيمة والنخبوية المرتبطة عادة بالفلسفة «طبيعة الوعي الإنساني، وجود الروح»‏‏

والاتجاه نحو الاهتمام بالمشاغل اليومية للإنسان. يأمل الممارسون لمضاد الفلسفة من خلال الاستطلاعات الشخصية والذاتية للضجر والقلق، الضحك واليأس أن يكتسبوا البصيرة بالظروف الإنسانية.‏‏

المفكرون الذين يجسدون هذه النزعة هم كيركيجارد ونيتشه وهايدجر، أما مساهمة Groys مع هؤلاء المشاهير تُعتبر أصلية ومؤثرة. ولكن هناك فصلاً واحداً ذو أهمية خاصة وهو نقاش Groys لليف شيستوف Lev Shestov، الفيلسوف الروسي، الثيولوجي والناقد الذي تُعد أعماله ذات أهمية بالغة في تطور الفلسفة الوجودية. اليوم نادراً ما يتم تذكّر شيستوف، ولكن نقاش Groys لفلسفته يُعتبر مدخلاً هاماً لمفكر لامع ومؤثر يستحق الكثير من التركيز.‏‏

‏‏

وُلد ليف شيستوف عام 1866 في مدينة كيف لعائلة ذات نشاط تجاري مزدهر. تزوج شيستوف عام 1896 وبدأ مساره المهني ككاتب رسائل في روسيا، كتب حول دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف وفق منظور فلسفة نيتشه. كانت الاضطرابات التي حدثت في العقود الأولى للقرن العشرين قد جلبت المأساة وعدم الاستقرار لحياة شيستوف: ابنه قُتل أثناء الخدمة في الجيش الروسي بينما أجبرت ثورة أكتوبر عام 1917 عائلته على الهروب من البلاد. شيستوف أمضى السنوات اللاحقة من حياته في المنفى، متنقلاً بين كريميا وسويسرا حتى عام 1921، حيث استقر في نهاية المطاف في فرنسا ثم مات في باريس عام 1938.‏‏

أول أعمال شيستوف في الفلسفة الأصلية كان كتاب «تمجيد اللاعقلانية» الصادر عام 1905، يستكشف ما يسميه «اللاعقلانية» أو عدم اليقين في خبرة الإنسان عن العالم: «نحن لا نعرف أي شيء عن الحقائق النهائية لوجودنا، وسوف لن نعرف أي شيء»، «ليكن ذلك متفقاً عليه». يؤكد شيستوف «ليس هناك أي معنى لهذا العالم، والفلسفة يجب ألا تطمح لإيجاد أي سبب له»، «مهمة الفلسفة هي أن تعلّم الإنسان ليعيش في عدم اليقين.. هي ليست لطمأنة الناس وإنما لإزعاجهم».‏‏

يرى شيستوف أننا نحتاج إلى فلسفة تنبثق من بديهة اللاسببية، من فهم الظروف الإنسانية كسخافة ضرورية وبلا معنى، هذه الرؤية طُرحت في تضاد مع الفلاسفة الذين أكّدوا على أسبقية العقل وعلى الطبيعة العقلية المفترضة للوجود الإنساني. بالتأكيد أن التفكير المنطقي والعقلي يساعد الإنسان في فهم مظاهر معينة للعالم، حيث أقر شيستوف «أن نبذ المنطق كلياً سيكون تطرفاً». ولكن شيستوف اعتقد أيضاً أن التفكير العقلي هو واحد فقط من بين العديد من قدرات الإنسان. فلو استخدمنا العقل في كل مجالات الحياة، فهو سوف يُضعف من قدرة الإنسان في الارتباط بعوالم أكثر روحانية. وهكذا دعا شيستوف إلى اعتبار الإيمان والعقل، مطلوبان باعتبارهما كينونتين متمايزتين. «يبدو لي أنه لم تعد هناك حاجة للسؤال حول الوجود؟ لأنه من المستحيل بالنسبة له إعطاء أي جواب لهذا السؤال». ولذلك هو يقترح من الحكمة ألا يتم طرح مثل هذه الأسئلة.‏‏

قصة هبوط الإنسان من جنة عدن لخّصت بالنسبة لشيستوف الصراع بين العقل والإيمان، أو بين ما يسميه «أثينا وأورشليم». لماذا يستطيع ذلك الإنسان فعل أي شيء في تلك الجنة عدا التذوق من شجرة المعرفة؟ يقول شيستوف في محادثة له مع Martin Buber عام 1934 إنه في اللحظة التي أكل الإنسان فيها من الفواكه المحرمة، حصل على المعرفة ولكنه فقد حريته. الإنسان لا يحتاج ليعرف. طرحْ المرء للسؤال والتماس البرهان والأجوبة يعني أنه غير حر. أن تعرف يعني أن تعرف الضرورة. المعرفة تعني أن الإنسان ليس حراً. هذا الانقسام الحاد كان جوهر عمل شيستوف وجرى تطويره بشمولية أوسع في آخر- وربما أعظم- عمل له «أثينا وأورشليم 1937 «.‏‏

لم يعتقد شيستوف بأن الاعتراف بعدم العقلانية في الوجود الإنساني هو غاية بذاته وإنما نظر إليه من حيث الجوهر كـ «معرفة ما قبل الأخيرة» بنفس أهمية الحقيقة التي يجب الإقرار بها. إن «المعرفة النهائية» يمكن إنجازها فقط عبر قفزة الإيمان والالتفات إلى الله الذي لا يأتي عبر الحجة العقلية أو الحقيقة العلمية. لا يمكن للمرء التأكد تماماً من هذا الوجود، ولا يستطيع أيضاً تبرير طريقته نحو العقيدة الدينية. بدلاً من ذلك، على الإنسان أن يتخذ خطوة راديكالية غير منطقية نحو الله، خطوة شخصية ليست عقلية في ظاهرها وإن لم يتم التحقق منها عقلياً.‏‏

‏‏

إن الحجة القائلة بأن المرء بحاجة إلى الإيمان في مواجهة الخيار اللامنطقي – ولجوء شيستوف إلى الإنجيل ليوضح هذا الموقف – هو مشابه تماماً للحجة التي طرحها كيركيجارد قبل نصف قرن والمرتبطة عادة بالوجودية، وهي إحدى المدارس الفكرية الهامة في القرن العشرين، التي أكدت على سخافة الحياة الإنسانية وعلى حاجة كل فرد للتغلب على تلك السخافة حتى لو كان محكوماً سلفاً على هذه الخطة بالفشل. بالنسبة إلى كيركيجارد يرى أن على الإنسان أن يحقق قفزة في الإيمان كي يرتبط بالإله وينتقل إلى ما وراء يأسه، وإن فلسفة شيستوف جادلت بشيء مشابه. ما جعل موقف شيستوف متميزاً وثورياً هو أنه استبدل إله كيركيجارد بإله شخصي تماماً.‏‏

وإذا كانت قفزة كيركيجارد الإيمانية قد نقلتهُ إلى العالم المسيحي التقليدي فإن قفزة شيستوف لم تحقق مثل هذا الهبوط الآمن. إن فكرة شيستوف عن الإيمان والله يمكن النظر إليها كجسر حيوي يمتد من الوجودية الدينية لكيركيجارد، التي مكّنت الإنسان من الاتصال بالإله الثيولوجي، إلى وجودية ما بين الحربين العالميتين كـ مارتن هايدجر وبول سارتر وآلبرت كاموس.‏‏

إذاً ما نوع الإله الذي يؤمن به شيستوف؟ ومنْ هو بالضبط؟ فكرة شيستوف عن الإله كما تقول رامونا فوتياد Ramona Fotiade أستاذة الفكر الفرنسي في جامعة غلاسكو ومديرة جمعية ليف شيستوف هي «معقدة ومتناقضة». فهي تذكر أن شيستوف كان يهودياً وأن مفردات مثل آدم و Job كانت تتردد دائماً في كتاباته. ولكن مع ذلك كان شيستوف يتحدث دائماً عن يسوع وعن أهمية الإيمان المسيحي. هو يؤكد على مقدرة الإنسان في الاتصال بالرب عبر الإيمان.‏‏

تقول Fotiade «إن إله شيستوف يهودي، لكنه في نفس الوقت أصبح جسداً ثم مات وبُعث ثانيةً وفق الإيمان المسيحي». هذا الإله لا يعطي القوانين ولا يغفر أو ينقذ، ومن هذه الزاوية كان فهم شيستوف للإله أقرب إلى العقيدة المسيحية بالخلاص عبر الإيمان وحده، عبر علاقة ثنائية بين الله والإنسان. لذا لم يعد مهماً تصنيف شيستوف سواء كان يهودياً أم مسيحياً. كانت أعمال شيستوف مؤثرة للغاية أثناء حياته، كتب Hillel Zeitlin يقول «لو سألني أحد عن الخليفة الحقيقي لنيتشه لقلت دون تردد: شيستوف».‏‏

إنه من الغريب جداً أن تظل أعمال شيستوف غير معروفة لطلاب الفلسفة والأدب والدين المعاصرين. وسبب ذلك يبقى غامضاً تماماً. يذكر دانيال رينولد Daniel Rynhold بروفيسور الفلسفة في جامعة Yeshiva «ما يحصل هو أن يُلتقط الشخص في الأوساط الأكاديمية نتيجة لحالات الطوارئ والصدفة وليس نتيجة لقيمة عمل ذلك الشخص». إن العمل الذي قامت به Fotiade «هي حالياً تقوم بمراجعة طبعة فرنسية جديدة لأعمال شيستوف» وزملاؤها في جمعية ليف شيستوف يسعون من خلاله لزيادة المعرفة والاهتمام، كذلك يُعتبر الفصل الذي خصصه Groys لشيستوف في كتابه «مدخل في مضاد الفلسفة» نقطة تحول في استعادة سمعة شيستوف.‏‏

لم يكن مصطلح «ضد الفلسفة» متداولاً أيام شيستوف – استخدامهُ في هذا السياق كان من اختراع Groys – لكنه مصطلح يُحتمل جداً أن يكون مفضلاً من جانب شيستوف. إن مصطلح «مضاد الفلسفة» قُصد منه محاكاة «ضد الفن» وهي الحركة التي ظهرت في بداية القرن العشرين والتي ادّعت أن الفن لم تكن له علاقة قوية مع الأشياء المعروضة في المتاحف وصالات العرض قياساً بالشعور الذي يجلبه الفرد نحو تلك الأشياء المعروضة. وأفضل مثال على ضد الفن يذكر Groys هو العمل الفني لـ Duchamp عام 1917 الذي عرضه تحت اسم «نافورة جاهزة» Readymade Fountain وهو عبارة عن نافورة مصنوعة من مادة البورسلان تُستخدم في الحمام. فهل هذه النافورة المعروضة تُعتبر فناً؟ وهل تؤدي وظيفة الفن؟ حالما توضع في صالة العرض – حسب قول Duchamp يكون الجواب نعم. إذا كان الزائر للمعرض يعطي للنافورة نفس الانتباه المكثف الذي يعطيه المرء لأعمال Monet فهل سيكون أقل خبرة جمالية؟ يقول Duchamp إن الإبداع الفني والمهارة اللذين يراهما الفرد في الأعمال الفنية الرائعة يمكن العثور عليهما في جدران الحمامات العامة لو كان الناظر ينظر إلى تلك الحمامات بطريقة معينة. يؤكد فريق ضد الفن أن الجمال ليس فقط في عيون الناظر وإنما يُخترع في عينيه.‏‏

لا يهدف ضد الفن إلى حرمان الفن من أهدافه وإنما لدمقرطته، هو يسعى لإثبات أن الحمامات سيكون لها نفس مقدار الجمال الذي في المتحف حينما يستطيع الفرد تغيير عاداته في التفكير. أعمال شيستوف تهدف إلى إنجاز نفس الشيء كي تحقق تحولاً مشابهاً في الشعور.‏‏

تسعى فلسفة شيستوف إلى الهروب من القيود المعوقة للذهن الرشيد والعودة بالإنسان إلى حالة من الخشوع. ولكي يتم هذا قام شيستوف بعمل فلسفي مواز لجلب النافورة إلى الصالة: عمله لم يكن منهجياً، هو لم يطور حججاً تقليدية ولم يأمل في التحدث عن الحقيقة التي يمكن التحقق منها موضوعياً. بدلاً من ذلك نجد أعماله كانت شخصية وعفوية وساخرة. إنها تستدعي من القراء التفكير مطولاً ليدركوا أن استعمال الفلسفة ليس دائماً الطريقة المثلى ليكونوا فلسفيين وأن هناك الكثير يجب تعلمه بوسائل غير الاستنتاج العقلي. هذه الصفات والاهتمامات ستصبح باستمرار مفضلة في السنوات القادمة، ولذك من الصحيح القول إن شيستوف هو أحد الآباء المؤسسين إلى جانب كيركيجارد ونيتشه الذين يمكن تسميتهم حالياً بمضادي الفلسفة.‏‏

كتب شيستوف «لو أن صوتاً مفاجئاً عكر أسمى حالات التأمل والتفكير، فأنت يمكنك وضع استنتاج إذا شئت، وإذا لم تحب، سوف لن تحتاج ذلك». أعمال شيستوف لها نفس الطابع، أولئك الذين يعتقدون أنها غريبة أو حتى سخيفة سيجدون الكثير من الأسباب لنبذها. أما أولئك الذين تتحدث إليهم تلك الأعمال فسيجدونها مدهشة.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية