تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في مغازلة العدم..هل ثمّة إهانة للحياة.. ؟

ثقافة
الخميس 9-5-2013
لميس علي

فعل مواجهة.. مغازلة.. انعتاق.. مهادنة.. فرصة للتواجد أو لعلها فرصة للغياب بطريقة مخالفة للسائد ؟

هل في اختيارهن سبيل موتهن إشارة إلى هزيمة الذات، أم أنه الخلاص ؟‏‏

هل فيه انغماس كامل نحو مطلق اليأس، أم فيه كل التحرر من ظاهر الألم ؟‏‏

سواء أكان بهذا الاتجاه أم ذاك، مقبلاً باتجاه عشق كل لحظة عيش أم باتجاه كتم كل منها و خنقها، يبدو كل ما قُمْنَ به، وعن سابق العمد و كامل القصد، فعل (تحرّش) مشاغلة للآخر وربما مشاغلة لأعماقهن، بوح بأعلى صرخات الوجع، لم تسعفهن (الكلمة - الأدب) بأدنى الدرجات تعبيراً عنها و لهذا قلن كلمتهن الأخيرة، أطلقنّها في وجه الحياة علّها تصيخالسمع جيداً في آخر فرص الممكن.‏‏

على قول مارينا تسفيتاييفا: (لم أبحث عن قصائدي أبداً. إنها قصائدي التي تبحث عني).. لم تتعب نفسها هي و سيلفيا بلاث و لافرجينيا وولف في البحث عن قصيدة أخيرة تمجّد ذكراهن و كما لو أنهن يضعن إمضاءهن على آخر منجزاتهن الأدبية، هكذا كان أن أنهت الأولى حياتها بشنق نفسها بحبل كان أحضره لها باسترناك في آخر لقاء جمع بينهما.. والثانية طبّقت مقولتها (الموت فن) فأدخلت رأسها بفرن الغاز لتنهي سلسلة معاناة بدأت مذ كانت صغيرة، أما وولف التي لم تستطع التخلص من هلوسات أصوات لم تجعلها تركّز فيما تكتب من أدب، ملأت جيوبها بالحجارة و أغرقت نفسها بالنهر المجاور لبيتها.‏‏

مع بلاث.. و طبقاً للعديد من الدراسات و آراء النقاد، في طريقة موتها يتمثل خيارٌ وجودي.. يبدو خياراً فاقعاً صوب انتشال المعنى من (العدم) إنه كل المعنى بالتجرؤ على حياة أذاقتها جرعات من موت بطيء مؤقت استطعمته عبر خيانة زوجها الشاعر تيد هيوز، و أحداث أخرى أوصلتها بمجموعها و هي في العشرين من العمر إلى محاولة الانتحار لم تنجح، ولهذا خطّت آخر سطر في كتاب حياتها وفق ما أرادت، حسمت أمرها وأقبلت صوب موضوعاتها الأثيرة (الموت) و كأنها ترى به الملجأ والملاذ هي صاحبة المزاج الخاص و الرؤية السوداوية.‏‏

فهل انطمست كل فرص الحياة بخيارها ذاك، هل هو فعل استسلام.. إذعان.. أم رفض.. ؟‏‏

إنه رفض للاضطهاد الذي عاشته الشاعرة و خلاص من واقع الهلوسات و الهذيانات التي عانت منها بلاث مراراً حتى إنها دخلت مصحاً نفسياً،و هو ما يُذكّر بواقع عاشته، وولف التي عانت هي الأخرى من اضطراب عصبي أدخلها مصحاً عقلياً.‏‏

عن طريق الأدب احتالت وولف و استثمرت حالة الهذيان التي كانت تصيبها فوظّفتها عبر فنّها الأدبي، هكذا طوّرت من خلال حسّها الداخلي ما عُرف فيما بعد بتيار الوعي.‏‏

و لربما اُعتبر فعل كل من وولف و بلاث قفزاً فوق المعاناة. فالأولى أدركت حالتها الذهنية و عملت على تطويعها روائياً و الثانية تفننت بانتقاء أحلى التوظيفات للثيمة الأبرز في شعرها التي ذكرتها و كما لو أنها تعمل على تطور درجات الارتقاء إليها وصولاً إلى مرحلة التطبيق، ألم تكن هي القائلة: (الموت فن.. على غرار كل ما عداه و أقوم به بشكل استثنائي) و بالفعل قامت به بطريقة غير متوقعة.‏‏

وحده الألم و وحشة المعاناة دفعت وولف و بلاث إلى اقتناص برعم الأدب واللجوء إليه و الاسترخاء في طيف إبداعاته. كنوع من المهدئ نظرن إليه، مهدئ قادر على نقلهما إلى عوالم أخرى لم تمنحهما إياها حياتها الواقعية.‏‏

ولعل موضوعات تسفيتاييفا تدلل على حقيقة تخالف الطريقة التي وظّفت كل من وولف و بلاث بها الأدب.‏‏

أشعارها لم تكن موطناً للبوح الداخلي كما يتضح مع بلاث، بمعنى أنها لم تنقل آلامها و لا معاناة فقرها أو وحدتها التي عاشتها في دنيا الاغتراب إلى قصائدها. و كأنها عملت على تحييد ما عاشته واقعاً عن معظم ما كتبت، هل كان في ذلك سبب إضافي جعلها تقبل على خيار الانتحار ؟‏‏

أي أنها لم تجعل من أشعارها وكأنها مخدر أو مهدّئ ينتشلها من سوء حياة تعيشها و لو مؤقتاً، لم تركن لهذا الخيار، هي التي صرّحت في إحدى قصائدها: (أشعاري كالنبيذ المعتّق).. لم تهتم لكون الأدب له فعل المجمّل و أثر المخلّص.‏‏

هي غير قادرة على رؤية هذه الميزة للإبداع لطالما كان سوء حياتها وظلمها يحيط بها. فواقع الفقر و التشرد و ما أحاط بعائلتها من مصير أسود طمس كل قدرة على لمح أي إشعاع أمل، إذ اعتقل زوجها و قُتل، نُفيت ابنتها، سُجنت اختها، لم تعش لا في بلادها و لا في المنفى إلا وفق قناعاتها التي جعلتها تحصد مواقف الآخرين السلبية تجاهها.‏‏

لأجل كل ذلك.. خيارها بشنق نفسها يبدو و كما لو أنها دُفعت إليه أكثر من كونه موقفاً، كما كان الحال مع وولف وبلاث.‏‏

تسفيتاييفا لم تسعَ إلى ترف النهاية، إنما بدا و كأنه الخيار الوحيد الذي يحاصرها.‏‏

و بهذا تكون حسمت واقعاً و انتهت منه و إلى غير رجعة دون أي رغبة بمعاندة.‏‏

فهل حوّلتها نهايتها إلى مهزومة. خلافاً للآخريين اللتين عاندتا بممارسة فعل الموت وفق طقسية غير مسبوقة ؟‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية