|
آراء
ولو عدنا الى مطالع القرن العشرين لرأينا كيف كانت دولة النارجيلة العثمانية تلفظ أنفاسها... ويتقاسم الحلفاء المنتصرون تركتها عقب الحرب العالمية الأولى,ويومها قال جورج كليمانصو كلمته المشهورة حينما كان رئيس وزراء فرنسا:(إننا نطرد الخيول الآسيوية خارج هذا العصر). وأفرزت الحرب الأولى قوتين كبيرتين هما بريطانيا بامبراطورية لا تغرب عن بحارها الشمس,وفرنسا,قوة برية وسياسية تمتد مستعمراتها عبر القارات. ولكن الأمر لم يدم طويلاً,فخلال ربع قرن كان الصقر البريطاني العجوز يتهاوى مهيض الجناح ويلفظ أنفاسه في قناة السويس عام 1956 وكان النمر الفرنسي المرهق يغادر الحلبة محطماً في ديان بيان فو والجزائر. ومن جديد تفرز الحرب العالمية الثانية قوتين عظيمتين هذه المرة أكبر من بريطانيا وفرنسا,ويعرف العالم مناخ الحرب الباردة بين العملاقين السوفييتي والأميركي. وعبر المحيط الأطلسي كانت سلسلة المساعدات تتدفق من خلال مشروع (مارشال) الأميركي)مساعدات تقدمها أميركا الحفيدة لجدتها العجوز أوروبا. وإذا كانت الخيول الآسيوية قد غادرت العصر والتاريخ برأي كليمانصو,فها هي خيول آسيوية جديدة تدخل العصر,ولكنها خيول صفراء نقلت مركز القوى الى المحيط الهادي. وقبل أن يمضي نصف قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية كان أحد العملاقين يترنح ويتفسخ من داخله ويسقط سقوطاً مدوياً,إنه الاتحاد السوفييتي, الذي لم تفده صواريخه ورؤوسه النووية في اكتشاف طائرة شراعية يقودها شاب ألماني ويحط بها أمام جدار الكرملين في موسكو. هل تذكرون قصة تلك الطائرة.. كانت في أواسط الثمانينات.. ومن يومها ظهرت الثغرات والثقوب في ذلك الجسم الضخم جداً ولكنه المترهل جداً. منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية كان الألماني (شبنغلر) قد نشر كتابه (تدهور الحضارة الغربية) ثم نشر (ولسن) الانكليزي كتابه (سقوط الحضارة ) وأعقبه المؤرخ الأميركي المعاصر (بول كندي) بكتابه (نشوء وسقوط القوى العظمى). وخلال حركات الشباب الغاضبة في أوروبا كان الفرنسي جان جاك سرفان يقول: لقد انتهت أوروبا. وتدخل البشرية عقد تسعينات القرن العشرين,وهي تعيش حالة فريدة من انعدام التوازن,ومن سيطرة أحادية متغطرسة تملك قوة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً. وتتلفت أوروبا العجوز باحثة عن شواطئ المتوسط الجنوبية تحاورها,وعن افريقيا تساندها,وعن الشرق الأقصى تمد يدها إليه. وفي ذلك كله تشعر أوروبا العجوز أن السوط الأميركي الملوح من خلف المحيط لا يرحم أحداً.. ألم يقل يوماً (كيسنجر) :إن أوروبا قد فقدت دورها وغادرت التاريخ. ألم يقل (بريجنسكي): إن أوروبا لا علاقة لها بالقرار السياسي العالمي.. ثم يأتي أخيراً (رامسفيلد) ليقول وسط الذهول الأوروبي: إن أوروبا مجرد مساحات عقارية لا وزن لها. لقد صدر كتاب (بول كندي) قبل السقوط المروع للاتحاد السوفييتي.. وكان قد تنبأ بذلك في كتابه. وفي الكتاب نفسه.. يحلل الكاتب عوامل القوة والضعف في المجتمع الأميركي.. ويرسم صورة قاتمة لذلك المجتمع من خلال نصف قرن مقارناً دراسته مع سقوط الامبراطوريات الكبرى في التاريخ كالاغريق والرومان والعرب والقياصرة الروس والألمان.. لقد اخترق شاب ألماني مغامر شبكة التقنية السوفييتية خلال الثمانينات ووصل بطائرته الى جدار الكرملين. ولم تنفع التكنولوجيا الأميركية الفائقة في اكتشاف الاختراقات الهائلة التي ضربت نيويورك وواشنطن قبل خمس سنوات في 11 أيلول. وبغض النظر عن الفاعلين ودوافعهم,فإن ما حدث يشكل ثغرة كبرى في جدار التكنولوجيا المتغطرسة. العصر باق.. ويخرج منه من يخرج.. ومسيرة التاريخ لا تتوقف,وشعلة الحضارة تتناقلها أيدي الشعوب.. تلك الحضارة التي هي أقوى من كل الكوارث والحروب. ولعلنا نتعلم مما حدث أن الحياة الكريمة حق لجميع الشعوب,وأن قيمة الإنسان فوق كل اعتبارات المصالح,وأن أمن الإنسان في بيته وعمله وأسلوب عيشه. يجب أن يكون فوق كل الحسابات ولجميع الناس في شتى أقطارهم وأوطانهم. إننا اليوم في بدايات القرن الحادي والعشرين.. وحسابات الجغرافيا السياسية تظهر التفوق الكاسح للأنكلوساكسون القادمين من وراء المحيط وسعيهم الحثيث لامتلاك ناصية القرار العالمي سياسة واقتصاداً وقوة عسكرية. ولكن حسابات التاريخ تقول غير ذلك.. فالانقلاب الأحادي للقطب الأميركي الهائج لا يمكن أن يصبح حقيقة تاريخية راسخة رغم الجغرافيا,لأن آفاق القرن الحالي تحمل إرهاصات التغيير الذي لا بد من قدومه. وإذا كنا في الوطن العربي والعالم الإسلامي نزداد التصاقاً بزوايا الكهوف التي حشرنا فيها بفعل مؤامرات الداخل والخارج,فإن شعوباً أخرى عرفت كيف تشق طريقها سريعاً لتمارس لعبة التاريخ والجغرافيا من خلال حسابات دقيقة ومدروسة ومبرمجة. إن جانبي المحيط الهادي يتحفزان لصراعات القرن الحادي والعشرين.. الصين واليابان بامكاناتهما البشرية والتقنية والحضارية والتاريخية ..ومعهما النمور الآسيوية. وفي الجانب الآخر يقف الديناصور الأميركي محاولاً تمديد فترة هيمنته.. ولكن حركة التاريخ لا ترحم ولا تتوقف. كيف نستطيع الولوج الى منتصف القرن الحالي بأقل قدر من الجراح والخسائر والكوارث.. وكيف نستطيع التعلق بأطراف زورق نجاة يوصلنا الى الأمواج الهادئة ويسمح لنا بالابحار الآمن بعيداً عن قراصنة التاريخ ولصوص الجغرافيا. ألم تكن حرب المقاومة البطولية في لبنان مفتاحاً لدخول عصر جديد?! |
|