تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


عزلة وأذى أيضاً!!

آراء
الخميس 17-6-2010م
جلال خير بك

العزلة والوحدة القسرية، خاتمة قاتلة وإن كانت ببطء شديد.. وإحساس الإنسان بأنه وحيد في مهبّ الرياح دون أولاد أو أقارب أو أصدقاء عطوفين: هي أشد الرياح دون الموت البطيء

الذي يستل الروح رويداً رويداً.. ولعل أقسى أنواع الاستلاب الروحي، أن يمضي الزمن بطيئاً والمحيطون بالوحيد يؤذونه يومياً بدل أن يساعدوه على هذه النهاية المحزنة!‏‏

كيف يصل الحس الإنساني إلى هذه الدرجة من الإهمال واللامبالاة بالجار الذي يعد أيامه البائسة ساعة فساعة ؟؟‏‏

وكيف يمكن للمرء أن يقتل في جاره الشعور بالأمان في لحظات الإحساس بالخواء والعازة والشقاء؟ ويقتل فيه الأمل بأن تتمخض الأيام عن إنسان مؤنس محسن تتحرك في قلبه الشفقة؟؟‏‏

بل الأشد ألماً أن يشعر الإنسان الوحيد باللاجدوى في محيط مملوء بالازدراء والكراهية والأذى؟؟!!‏‏

هذا إذا كان ذلك الإنسان رجلاً وحيداً تعساً فيكف تكون الحال إذا كانت امرأة في أخريات حياتها لا تملك من الدنيا شيئاً، وتعيش في غرفة مستأجرة بائسة وجيرانها يؤذونها دائماً رغم أنها لا تملك لقمة طعام ولا أماناً ولا ما يساعدها أو من يساعدها لرد الأذى ؟؟!‏‏

لقد كتبنا سابقاً عن إنسان وحيد مشرد يشتغل عاملاً بالنظافة عاش في شوارع المزة- الشيخ سعد وهو في آخر أيامه بعد أن أنهكه المرض والعزلة وعزة النفس أيضاً !! رغم أنه دون أولاد أو أقارب .. كان يسكن غرفة مستأجرة هدمها «التنظيم» ولم يعط بديلاً منها فعاش مشرداً على الأرصفة ليس له مؤنس سوى عربته التي كانت عالمه وخزانته ومأوى أسماله.. وكانت تلك الأرصفة مأواه بعد أن طرده سكان البنايات وحرموه النوم في مداخلها أيام الشتاء القارسة.. لم يكن لديه سوى هذه العربة ومذياع صغير لا يفارق أذنيه بنشراته الإخبارية الكثيرة!!‏‏

لم يساعده أحد أو يعطف عليه.. لم تهتم به المحافظة وهد أحد عمالها.. كانت كهولته قد انقضت منذ زمن بعيد وبات يجرجر رجليه وهو يدفع عالمه « عربته» إلى الأمام ليختار رصيفاً يقيه لفحات البرد والصقيع.. وذات صباح زمهريري وجدوا جثته هامدة على أحد الأرصفة بعد أن تلفح بالبطانية الوحيدة التي كان يملكها.. جثة تخشبت يداها المرفوعتان إلى الأعلى وكأنها تحاكي السماء.. جثة أزيلت بهدوء وقسوة وبلادة كأن شيئاً لم يكن!! ... وتابع الزمان سيره يروي قصة قسوة الجميع، جميع من رأوه وما سألوا لم أنت على هذه الحال؟؟!!.. قسوة المحافظة التي لم تسأل عن أحد عمالها.. قسوة الجمعيات الخيرية أو دور المسنين أو حتى القيمين على الجوامع الكثيرة المحيطة بالمنطقة.. قسوة أصحاب السيارات الفارهة ورؤوس الأموال المتلتلة وهم يمرون أمامه صباح مساء في الشتاء القاسي والصيف اللاهب.. عاش كذلك ومضى دون ضجة وما سأل عنه أحد!!‏‏

منذ أيام قرأنا خبراً مطولاً عن امرأة مسنة تشبه حال ذلك الرجل البائس ..تستأجر غرفة عند أناس يؤذونها يومياً وليس لها من سند أو قريب.. وتعد أيامها واحداً بعد الآخر ولا تملك إلا ابتسامة مريرة تكفيها مؤونة الشتاء والصيف فتهدئ معدتها الخاوية وتخفف من ألم جوعها!!‏‏

هي إنسان مثل ذلك المشرد على أرصفة المزة.. وحولها الناس متخمة البطون وحقائب الأموال والوجوه الخشبية التي ماتت فيها الرأفة والحسنة والإحساس بألم الآخرين حتى لو كانوا جيراناً!!‏‏

غداً يتأسفون على هذه المرأة الوحيدة المعزولة كما تأسفوا على ذلك المشرد الذي كان ملء أيديهم وعيونهم ولم يسألوا: لم أنت على هذه الحال ؟؟!!‏‏

فأين الجمعيات الخيرية والأهلية التي ملأت أخبارها الصحف والمجلات وكذلك أخبار مناسبات احتفالاتها؟؟ وأين الأمول التي تحصل عليها من المحسنين أو المساهمين دون أن تدري بأحد من هؤلاء على الرغم من أن جباة التبرعات لها يجوبون شوارع وحارات دمشق !!‏‏

إن أكثر من وزارة وأكثر من دائرة وأكثر من «أمانة عاصمة » : مدعوة إلى التفتيش عن هؤلاء المساكين لمساعدتهم والتخفيف من مصائبهم قبل أن يداهمهم في العراء قيظ الصيف وزمهرير الشتاء، وعندها لاينفع التأسف والندم !! فهل يعود إلى هذا المجتمع «المعاصر»: صفاؤه الأول؟؟.‏‏

وهل يعود الناس كما كانوا: أهلاً وأكثر في اليسر والعسر ؟؟..وهل تعود صفات التكافل والتضحية في سبيل الآخر والغيرية أيضاً؟؟!!‏‏

إن زمناً يسيراً فقط يفصلنا عن تلك الفضائل التي سادت مجتمعنا وعن تلك الألفة والتواصل والالتزام التي كانت من عناوينه المحببة السعيدة ؟؟!!‏‏

فماذا حدث للدنيا والبشر فيها؟ ومتى كان الشخص في مجتمعنا يجوع ويعرى دون أن يلتفت إليه أحد؟؟ ومتى كانت هذه القسوة الهجينة من صفاته ؟؟.. تغير الزمان والبشر لكن: أإلى هذه القسوة أيها السادة أصحاب الأموال المكنوزة ؟؟!!.. وإلى هذه المرارة أيتها الجهات الرسمية المسؤولة ؟؟.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية