|
ثقافة تشارلز ديكنز الروائي النموذج لمن كانت ظروفه القاهرة دافعاً حقيقياً إلى الأمام بدلاً من النكوص باتجاه الخلف أقله على المستوى الابداعي دوناً عن الشخصي. في غرفة صغيرة بطابق بيتهم العلوي منزوياً بدأ في سن السابعة الطفل تشارلز عادة القراءة بنهم لافت، مطالعاً قصص (روبنسون كروزو، دون كيشوت، ألف ليلة وليلة..) كتب حفرت عميقاً في صنع قلمه الأدبي. وعلى الرغم من أحداث قاسية مرت على ذاك الطفل ظل متمسكا بعادة اللجوء إلى كتبه من وقت فراغ إلى آخر.. هرباً من واقع اضطرته ظروف عائلته أن يحياه وهو لم يزل في الثانية عشرة، العمر الذي بدأ العمل في مصنع للطلاء الأسود. ولد تشارلز في السابع من شباط عام 1812، كان الثاني لعائلة كبيرة من ثمانية أبناء، عمل والده جون ديكنز كاتب حسابات في مكتب البحرية البريطانية، دخلهم المتواضع لم يمنع والديه من الاسراف الأمر الذي أوقع العائلة بضائقة مادية أجبرتهم على بيع أثاث المنزل. لم تنج كتب تشارلز من البيع.. تدابير لم تمنع من دخول والده السجن لعدم قدرته على سداد ديونه. يقول تشارلز: (كنت أعلم أنني أتجول في الشوارع وأنا جائع وأنه لولا رحمة الله لأصبحت لصاً أو متشرداً صغيراً). تنقل الفتى تشارلز في عدة وظائف بدأها في العمل في مكتب محام ثم احترف الاختزال المهنة التي أخذها عن والده ليصبح كاتب اختزال في احدى المحاكم، وظيفة أمنت له الاطلاع على كثير من قضايا القانون أفاد منها ومنحه ذلك معرفة وافية بجوانب قانونية وظفها جيداً في رواياته. اشتغاله مراسلاً لاحدى الصحف شكل بداية فارقة في حياته الابداعية، أحب هذا العمل وأتاح له فرصة معايشة تجارب انسانية واجتماعية كثيرة وسعت أفق تجربته الكتابية. عام 1836 قدم كتابه الأول (حكايات بوز) يحكي وقائع حصلت مع بوز الذي لم يكن سوى اسم مستعار لتشارلز، أسعد الكتاب الجمهور كثيراً وكان خطوة أولى باتجاه اصدار كتابه الثاني (مغامرات بيكوك) الذي كان سبب شهرته وهو لم يتجاوز بعد الرابعة والعشرين. لم تسر حياة ديكنز العاطفية على التوازي مع حياته أدبية الناجحة والمميزة. أحب في الثامنة عشرة فتاة تركته بسبب من أهلها، تزوج دون حب من (كاثرين هوغارت) التي أنجبت له تسعة أبناء تركها بعد حياة مشتركة دامت خمسة عشر عاماً لوقوعه في حب ممثلة شابة (نيللي تيرنان)، لم تؤمن له قصته معها استقراراً عاطفياً بحث عنه.. إذ تسربت مراسلاتهما مازاد من احباطه وعدم وثوقه بمحيطه. الحرمان العاطفي سنوات الطفولة كان وراء عدم قدرته على الافصاح عن مشاعره للآخرين. تفاقم الأمر إلى نوع من عطش عاطفي طبع سنوات الرجولة تبدى ذلك في قوله (بعض الرجال يحبون المال وبعضهم يحبون المجد. أما النساء فهن عند الرجال أعلى من المجد وأثمن من المال). حياته التعيسة تسربت فيما صنع من شخصيات الصغار في أدبه، أدب جعل قراءه يتلمسون عبره الحرمان والعوز بسبب ظروف اجتماعية سادت انكلترا في عصر تشارلز. الكثير من النقاد يقاربون ما بين شخصيته وشخصية بطله (ديفيد كوبرفيلد).. ملامح كثير تجمع ما بينهما، التنشئة الفقيرة، ترك المدرسة، قصة الحب الخائبة، البعض يذهب إلى أنها سيرته الذاتية. غرف تشارلزمن مشاهداته اليومية، غذى بها صوراً جاءت في كتبه فكانت مقاربات لعالم البؤساء والفقراء بكل ما فيها من مأساة وخروج عن القانون.. الروائية الأمريكية جين سميلي مؤلفة كتاب (قصة حياة تشارلز ديكنز) تقول: (من يرد أن يطلع على الحياة الانكليزية في القرن التاسع عشر فليقرأ روايات تشارلز ديكنز). توفي ديكنز ولم يتجاوز الثامنة والخمسين في التاسع من حزيران عام 1870 بعد يوم نشاط حافل كتابة. من مؤلفاته: قصة مدينتين، الآمال الكبيرة، الأزمنة الصعبة، أوليفر توليست، ديفيد كوبر فيلد. |
|