تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


قراءة في نتائج الانتخابات البلجيكية وانعكاساتها الأوروبية

شؤون سياسية
الجمعة 18-6-2010م
د. جهاد طاهر بكفلوني

لم يكن المراقبون الذين تفرغوا لرصد حركة سير الانتخابات البلجيكية يتوقعون أن تمر دون إحداث ولو ضجيجاً خافتاً، لكنهم في الوقت نفسه لم يتوقعوا أن يسمع صوتها مشاباً بتلك النبرة العالية من الهمس المتردد بين الاكتفاء بالهمس تارة

والنزوع لرفع الصوت تارة أخرى، الأمر الذي قادهم إلى طرح أسئلة عدة، تتجه في مسارات مختلفة، وتلتقي في النهاية على صعيد واحد، هذا الصعيد سيضع قضية وحدة الدولة البلجيكية على المحك ويرسم أكثر من إشارة حول هذا المحك.‏

ولكي تكون الأمور متسمة بالدقة يجب القول إن ما جرى في بلجيكا خلال الانتخابات لا يمكن مقارنته بحال من الأحوال بتلك الأوضاع التي ظهرت في بعض الدول الأوروبية حاملة معها نذر تفكيك الدولة الواحدة، فبلجيكا ليست الاتحاد اليوغسلافي السابق الذي تناثرت دوله على الخريطة السياسية هنا وهناك، ولعل بلجيكا تشبه من حيث التركيبة السياسية سويسرا التي استطاعت عبر تاريخها المسالم صون وحدة كانتوناتها في اطار دولة متماسكة حتى يومنا هذا..‏

لكن المراقبين لم يستطيعوا ابقاء شكوكهم ومخاوفهم حبيسة صدورهم لأنها بدت جلية على وجوههم وهم يشاهدون الكفة في صناديق الاقتراع تميل لمصلحة الأصوات التي تتبنى النزعات الانفصالية والعرقية وتجهر بدعوتها سراً وعلانية.‏

وعلى الدوام كان النظر إلى بلجيكا يقوم على أساس أنها دولة تستطيع الامساك بالعصا من الوسط محتفظة بتوازن هذه العصا في موضوع النزعات الانفصالية والدعوات التي تنادي بحقوق عرق على حساب الأعراق الأخرى لكن هذا النظر تغاضى عن النار التي كانت كامنة تحت الرماد منتظرة اللحظة المواتية للتنفيس عن حرها وقد وجدت هذه اللحظة في الانتخابات الأخيرة.‏

كانت بلجيكا محط اعجاب الدول الأخرى، عراقة، ثقافة وعمق تقاليد تضع العلمانية في الصدارة وتضرب للآخرين المثل في التعايش السلمي الحضاري بين مكونات الثقافة الاجتماعية والتربية الأوروبية الغربية وتبقي الموزاييك الثقافي في الحدود التي لا تؤثر على تماسك الدولة ولا تهدد وحدة المجتمع البلجيكي..‏

وبلجيكا دولة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 30.528 كم مربعاً يعيش مواطنوها الذين يبلغ عددهم 10.8 ملايين نسمة في مستوى مادي جيد حيث يبلغ حجم الناتج المحلي الاجمالي البلجيكي 3828 مليار دولار بمعدل دخل سنوي للفرد في حدود 35500 دولار أمريكي الأمر الذي يبعد كثيراً من عوامل التأثير على الوحدة مثل الاحتقان الاجتماعي أو الأزمات الاقتصادية الخانقة التي يرافقها ارتفاع في معدلات الجريمة وهذا يعني أن مقومات الاستقرار الاجتماعي موجودة ويجب أن تكون عاملاً مؤثراً في تأمين الاستقرار السياسي.‏

مع الاشارة إلى أن أبرز الملامح الجيوسياسية تتمثل في المكونات الديمغرافية- الثقافية البلجيكية وذلك بسبب انقسام الشعب البلجيكي على أساس اعتبارات الخلفيات الثقافية اللغوية إلى ثلاثة مكونات هي:‏

- كتلة سكانية ناطقة باللغة الفلامانية وترتبط بثقافات شمال أوروبا الاسكندنافية ذات الطابع الساكسوني اضافة إلى الارتباط بالمسيحية البروتستانتية وبقدر أكبر تمثل امتداداً للثقافة الهولندية المجاورة لبلجيكا من ناحية الشمال ويتمركز البلجيكيون الفلامانيون في النصف الشمالي من بلجيكا ويشكلون 58٪ من اجمالي سكان بلجيكا.‏

- كتلة سكانية ناطقة بالفرنسية وترتبط بثقافات جنوب أوروبا ذات الطابع اللاتيني اضافة إلى الارتباط بالمسيحية الكاثوليكية وهؤلاء يتمركزون في النصف الجنوبي من بلجيكا ويشكلون 32٪ من اجمالي سكان بلجيكا.‏

- كتلة سكانية ناطقة بالألمانية وترتبط بثقافات وسط أوروبا اضافة إلى ارتباطها الشديد بألمانيا ويتمركز هؤلاء في أقصى شرق بلجيكا ويشكلون 10٪ من اجمالي سكان بلجيكا.‏

ولكن اللغة بدت عاملاً آخذاً بالتنامي التدريجي مهدداً بشق الصف والتأثير على التماسك السياسي الذي نعمت به بلجيكا ردحاً طويلاً من الزمن وعلى الرغم من انفتاح الذهن البلجيكي وتلقفه القيم الليبرالية والتعددية كمسلمات سياسية لا اختلاف عليها إلا أن السنوات كانت تمر حاملة مخزوناً كان يعمق الخلافات الثقافية الاثنو-لغوية ويدفعها للسير على طريق السياسة لتصبح في مراحل تالية خلافات سياسية عميقة لأن النخب السياسية البلجيكية اختارت التقوقع والانكفاء على الذات كما ظهر في الانتخابات وكان من نتيجة ذلك ظهور أنغام سياسية جديدة في المعزوفة البلجيكية.‏

الآن تراقب القارة الأوروبية ما جرى في بلجيكا وتنظر إلى صعود أصوات أصحاب النزعات الانفصالية وقدرتهم التي ظهرت خلال الانتخابات على استقطاب صفوف جديدة من المؤيدين ولا يسعها في مثل هذه الحالة إلا وضع يدها على قلبها خشية على مصير الوحدة الأوروبية التي لما تصل إلى شاطئ الأمان والاستقرار بعد، فأمواج الخلافات المالية، وتيارات تحديد العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وخلافات اتحادات المزارعين كل ذلك يضرب السفينة الأوروبية ويجعلها متقلبة على أمواج القلق وهي أمواج ستهدد مصير هذه الوحدة القلقة حاضراً ومستقبلاً.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية