تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أحمد الخوص.. نهاية رحلة معاناة وعطاء

ثقافة
السبت 2-3-2013
أحمدبوبس

أحمد الخوص أغمض عينيه ورحل تاركاً إرثاً متميزاً في البحث اللغوي وتبسيط قواعد اللغة لناشئتنا الذين أحبوا ما قدمه ودرجوا عليه ونهلوا منه فكان نعم المعين الثر والخصب.

على امتداد ساحة الوطن العربي انتشرت كتبه التي حملت عنواناً جميلاً ولافتاً(قصة الإعراب) وتوالت نجاحاته مما جعله علماً من أعلام الباحثين في وسائل الجذب اللغوي بعيداً عن النفور والتعقيد والألغاز ومماحكات الذين وجدوا الوقت الذي يتيح لهم أن يشغلوه بألغازهم.‏

وراء جهد وأبحاث أحمد الخوص رحلة كفاح لا يمكن للمرء إلا أن ينحني أمامها بإجلال وتقدير واحترام... في الزبداني ولد وعاش، ومن دمشق كانت رحلته إلى طلاب العربية وناشئتها.‏

نعم وراء قصة الإعراب حكايا إطراء ومتابعة، رجل لم يعرف اليأس أو القنوط، ولد مريضاً لكنه قاوم المرض، عانده، إرادة الحياة والتفوق منحته القدرة على التحدي والصلابة يروي المرحوم أنه ذات صيف وكان يافعاً أخذ كتابه وجلس تحت (إنارة الشارع) طبعاً ليلاً ليقرأ دروسه وحدث أن مر أحد المسؤولين آنئذٍ فرآه ومد إليه يد العون ويذكره بالخير على عكس ذاك الرجل الذي لم يقبله في مدرسته لأن المبلغ الذي جمعه الخوص من بيع مكعبات الثلج ينقصه بضع ليرات عن المبلغ المطلوب، وعاد الخوص أدراجه خائباً وعمل بائع مثلجات وأحذية حتى استطاع دخول المعهد العربي الإسلامي.‏

بعد ثلاث محاولات نال الثانوية ودخل كلية الآداب قسم اللغة العربية، وعمل مستخدماً في مديرية الجمارك ليسد رمقه في تلك الفترة حتى التخرج، ومن ثم ترفع من مراقب إلى مراقب عام في الجمارك.‏

سافر إلى بولندا لنيل الماجستير في اللغة العربية.‏

وكما أسلفنا أصدر سلسلة قصة الإعراب للكبار ومن ثم للصغار بأسلوب لغوي متطور، تلاه إصدار قصة البلاغة والعروض، ودراسات في التذوق الأدبي.‏

ومن كتبه المهمة: من الجاني.... وقد أثار حين صدوره نقاشاً واسعاً ولا يزال.‏

وكان رحمه الله يعتز بما قدمه عن نزار قباني في كتابه المهم: عروبة نزار قباني وقد جاء رداً على ادعاءات أعداء نزار أنه ليس عربياً، ونظراً لأهمية هذا الكتاب ولمحبة الراحل لنزار قباني وتحية لروح الشاعر والمؤلف فإننا نشير هنا إلى بعض المحطات في هذا الكتاب المهم.‏

لم يشغل شاعر عربي بالهم القومي كما شغل نزار قباني، شغل به من جوانب عدة، من الجانب الإبداعي أعلن ثورته على الرقابة في الشعر والإبداع وكان من المجددين الأوائل موضوعاً ولغة وأسلوباً وفي الجانب الآخر من الهم... الهم السياسي هم الهوية والانتماء.‏

فالفترة التي عاشها نزار هي فترة نضال عاصر الانتداب الفرنسي وهو طفل ورأى الوطن وهو يجزأ والأعداء يشنون الحروب عليه، عاش نكبة فلسطين وتوابعها رحل وقد امتلأ قلبه بالجراحات هذا كله أليس حرياً أن يملأ شعره بالغضب والنقمة على هذا الواقع؟ كيف يرى الأمة تجزأ وتستباح ويصمت؟ قد يبدو قاسياً في الكثير من قصائده لكنها قسوة الأب الحنون، قسوة من يريد لأمته أن تتبوأ المجد.‏

من قسوته هذه اتخذ بعض الأدعياء منفذاً للاتهام بأنه شعوبي ولكن مثل نزار لا يأبه لهذا الاتهام في ذكرى ولادته السادسة والثمانين نتوقف عند كتاب مهم أصدره الباحث أحمد الخوص وهنا، برهان تحت عنوان «عروبة نزار قباني» وطبيعي أن ينشغل الباحثان بهذا الموضوع ليقدما دراسة متميزة وجميلة.‏

يقول الخوص: « وفي اعتقادي أن الشاعر نزار قباني عمل للغة العربية ما لم تفعله المجامع اللغوية في الوطن العربي مجتمعة حيث دخلت كتبه كل بيت وقرأها الكبير والصغير، المرأة والرجل، الشاب والشابة، حتى الأطفال درجت ألسنتهم على حفظ بعض ما قاله نزار قباني أما ما فعله وما سيفعله الآخرون فسيبقى على الرفوف.‏

ولما كان نزار قباني شاعر الجماهير العربية وأصبح سلطان الشعر العربي الراهن أخذت سهام النقد تصوب نحوه متهمة إياه بأنه شاعر الجنس تارة والشعوبية تارة أخرى والخروج عن القوانين الدولية التي تفرض الاعتراف بإسرائيل تارة ثالثة، وقد بقيت هذه الاتهامات في صدر مؤلفيها وأصبح بعضها الآخر يملأ صناديق القمامة، فكل دقيقة تمر وكل ساعة تمضي وكل يوم يفوت نرى أن علينا قراءة كل شيء يصدر من الوطن العربي ومن خارجه ولا سيما الشاعر نزار قباني الذي دخل قلوبنا دون استئذان أو تأشيرة، فهو أحد القلائل الذين يدعون إلى العروبة والنضال من أجلها في كل حرف يكتبه أو ضمة أو كسرة أو فتحة أو سكون يحتاجه هذا الحرف أو ذاك.‏

نشأ نزار قباني في بيت شامي كأنه قطعة من الروض وطريقه إلى مدرسته كان مثيراً للأنف واللسان معاً، كما يقول أما ثالثة الأثافي بعد البيت والمدرسة فتأتي في حياة الشاعر نزار قباني في دمشق حيث رفض أن يكون محايداً في حبه لها فيقول:‏

في دمشق لا أستطيع أن أكون محايداً..‏

فكما لا حياد مع امرأة نحبها فلا حياد مع مدينة أصبح ياسمينها جزءاً من دورتي الدموية وأصبح عشقي لها فضيحة معطرة تتناقلها أجهزة الإعلام.‏

هذه المدينة تخضني تشعلني تضيئني تكتبني ترسمني باللون الوردي، تزرعني قمحاً وشعراً وحروفاً أبجديه تغير تقاطيع وجهي، تحدد طول قامتي، تختار لون عيني، تؤكدني، تجددني، تقبلني على فمي فيتغير تركيب دمي.‏

في الشام أستطيع إلا أن أكون شامياً.‏

الواقع أن دمشقيتي هي نقطة ضعفي وقوتي معاً.‏

إن دمشق تتكمش بي كما يتكمش الرضيع بثدي أمه، مزروعة بي دمشق كما الحلق الإسباني مزروع في آذان الإسبانيات، مستوطنة في صوتي وفي حبري وفي دفاتري كما يستوطن السكر في شرايين العنقود.‏

كل حروف أبجديتي متعلقة حجراً حجراً من بيوت دمشق وأسوار بساتينها وفسيفساء جوامعها.‏

قصائدي كلها معمرة على الطراز الشامي.‏

كل ألف رسمتها على الورق مئذنة دمشقية‏

كل ضمة مستديرة هي قبة من قباب الشام...‏

كل حاء هي حمامة بيضاء في صحن الجامع الأموي..‏

كل عين هي عين ماء..‏

كل شين هي شجرة مشمش مزهرة...‏

كل سين هي سنبلة قمح..‏

كل ميم هي امرأة دمشقية وما أكثر الميمات في دواوين الشعر...‏

وهكذا تستوطن دمشق كتابتي وتشكل جغرافيتها جزءاً من جغرافية أدبي.‏

لا يمكن الفصل أبداً بين الحبر الذي أكتب به وبين أنهار دمشق السبعة.‏

ونزار قباني شاعر العروبة لا يحب دمشق وحدها بل كما يقول الخوص: بل إن كل مدينة عربية هي أمة يحبها كما تحبه ويعتز بها كما تعتز به، فالوطن العربي الموحد هدف كل إنسان شريف.‏

أحمد الخوص الباحث اللغوي الذي نذر حياته للعمل والعطاء لم ينكر فضل أحد عليه أبداً، بل كان دائماً يردد على مسامعنا ما قدمه له الأستاذ مدحة عكاش صاحب مجلة (الثقافة) ويذكر بالخير والامتنان أيضاً شاكر الفحام وآخرين كثيرين، ولا بد من الإشارة إلى أنه أيضاً أعد كتاباً عن الراحل مدحة عكاش، جمع فيه شهادات ودراسات وآراء قيلت فيه.‏

أحمد الخوص عملت بصمت ورحلت بصمت لكنك موجود في كل ركن من مكتباتنا المدرسية والجامعية، واللغة العربية التي نذرت نور عينيك لها، غداً نحتفي بعيدها، وأنت الغائب ولكنه الأكثر حضوراً... تحية لروحه الطاهرة ولك البقاء فيما قدمته.‏

**‏

نـذر نفســه لتبسيط قواعـد اللغـة العربيــة‏

برحيله..كتب أحمد الخوص الصفحة الأخيرة من كتاب حياته المليئة بالكفاح. كفاح صعب حوّل طفلاً فقيراً يعاني من أوضاع صحية قاسية إلى إنسان معطاء، إلى كاتب أصبح منارة لكثير من الناس وبشكل خاص الأجيال الصاعدة. جاء كل ذلك بإرادة الحياة التي تحدث عنها الشاعر أبو القاسم الشابي في قصيدته المشهورة (رادة الحياة).‏

إذا الشعب يوماً اراد الحياة‏

فلابد أن يستجيب القدر‏

وإذا الإنسان أراد، فلابد أن تخضع له الإرادة. وهكذا كان الأمر مع أحمد الخوص. نشأ فقيراً معدماً ، في أسرة تقطن غرفة صغيرة، ويعاني من مشكلات صحية. عمل بائعاً جوالاً، حمل علبة البوظة (الأسكا) على كتفه. وفجأة استيقظت عزيمته، قرر الطفل أحمد الدراسة. ولكن أين يدرس ومنزله كله غرفة واحدة. لم يجد غير رصيف الشارع، فكان بعد انتهاء عمله يجلس على الرصيف تحت إنارة البلدية يدرس حتى وقت متاخر من الليل. لينال الابتدائية ثم الإعدادية. وينتبه إليه أحد المسؤولين، فيستدعيه، ويسمع قصته، ويخصه براتب شهري يساعده على إكمال دراسته.‏

ويصل أحمد الخوص إلى امتحان الشهادة الثانوية، وتقهره مادة اللغة العربية فيرسب، ويتكرر الأمر أربع مرات، وفي المرة الخامسة ينتصر وينال الثانوية. وبمزيد من الإصرار ينتسب إلى كلية الآداب (قسم اللغة العربية)، يريد أن يفك (شيفرة) اللغة التي أضاعت أربع سنوات من عمره وهويقارعها. وبعبقرية مدهشة يفك لغز اللغة، وينال الإجازة فيها، ويتبعها بدرجة الماجستير.‏

ولأن اللغة العربية كانت العقبة الكأداء في طريقه، فقد أراد أحمد الخوص ألا تكون كذلك في طريق الآخرين صغاراً وكباراً. فنذر نفسه لتذليل مصاعب اللغة وتسهيلها. فوضع سلسلة كتب سرت بين الناس سريان النار في الهشيم. (سلسلة القواعد) للكبار والصغار، (سلسلة الإنشاء)، (قصة الإعراب) للأطفال واليافعين في ثلاثة عشر جزءاً، (سلسلة التبسيط اللغوي) و(قصة العروض) وغيرها، إضافة إلى كتب مفردة مثل (عروبة نزار قباني) و(من الجاني) وكتب أخرى أصبحت تشكل جزءاً هاماً من المكتبة اللغوية العربية.‏

اثنتان وسبعون سنة حملها أحمد الخوص على كاهله. ماكان فيها وقت للراحة، إلا اللهم استراحة المحارب الذي يستعد لمعركة جديدة. لم يكن عنده في حياته هاجس أخر غير هاجس اللغة العربية، لغتنا الجميلة التي أراد لها أحمد الخوص أن تكون جميلة بلا رتوش وبلا عمليات تجميل تفقدها جوهرها. أراد أن يكشف القناع الذي وضعه لغويون قبله عن وجه لغتنا، ليبدو جمالها طبيعياً بسيطاً، كما شعر نزار قباني ونثر محمد الماغوط. لغة لايحتاج القارئ معها إلى معاجم وقواميس. عند أحمد الخوص أصبح الإعراب حكاية ممتعة، والإنشاء (حدوتة) مشوقة. بعيداً عن تعقيدات سيبويه ووعورة الزمخشري.‏

هذه هي حياة أحمد الخوص من ألفها إلى يائها. فيها العبر والعبرات، فيها النضال والتصميم، فيها الإرادة تجسدت بأجمل معانيها. إرادة لم يتسرب اليأس إليها، ولم تفتر حماستها.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية