|
ثقافة توهماً، هذا زمن النَّحو نحو الحداثة مثلا، الشاعر يكتب في جميع الأجناس، أما العكس فليس بصحيح.. ولو عدنا إلى بدايات آثار الإنسان الأولى، لوجدنا أن الشعر كان الأسبق إلى الظهور ولا يزال يتبوَّأ مكانته الأرفع والأسمى والأميز بين جميع أنواع الفنون والإبداع الذي أنتجه وينتجه الفكر الإنساني على مر العقل البشري، فقط صناعة الصورة والتقنيات البصرية، إضافة لسهولة كتابة السرد الأدبي، كل هذا جعل كما لو أن الزَّمن هو زمن الرواية، مثلاً، إضافة إلى موجات التسطيح والاستسهال في النشر والكتابة للشعر والتي جعلته يتراجع في الاهتمام والمكانة إلى درجة أقل من الرِّواية، ومسألة أخرى هامة وهي أن الكتابات غير الشعرية تتلقفها الذائقة على أنها سرد، وتستسيغها ولا تميز مباشرة الجيد من الرديء على عكس الشعر فهو إن لم يكن شعراً حقاً ويهز الضمير والشعور والوجدان فسرعان ما تحكم عليه الذائقة إما بالشعر أو اللاشعر وهنا مكمن الأمر ومربط الفرس، وهو علو مكانة وقيمة الشعر بين الأجناس الإبداعية الأخرى، فنص شعري واحد قادر على استقطاب حشد جماهيري فيما لو لامس وجدانهم وضمائرهم وعقولهم وواقعهم وذائقتهم الإنسانية. في مطلع القرن الماضي، كان ثمة جيل الرواد الذي كوَّن نفسه وترك بصمة عميقة في القصيدة السورية والعربية المعاصرة، وبات رواده قمماً في هذا بعد أن خرجوا من عباءة الشعر التقليدي والاتباعي والرومانسي إلى جيل الحداثة الشعرية بالشكل والتناول، وأقصد هنا شعراء سوريا الكبرى «بلاد الشام» والعراق، حيث أتى بعدهم جيل الثمانينات والتسعينات ونهاية الألفية الماضية ليرسخ أسماء وتجارب اجتهدت على تمييز بصمتها وإنتاج تجربتها المختلفة والتي طورت المشهد الشعري، أما حالياً فتتراوح التجارب في ظل شساعة المنابر وترامي حدود الذائقة وتداخل أجناس الكتابات، واشتغال الكثرة على مشهد ثقافي متجاذب متنافر كالنوادي والمنتديات والصالونات والتجمعات، ومنهم فقط لغاية إقامة هذه التجمعات، لا أكثر، إضافة لغياب مشهدية النقد الأدبي الأكاديمي الممنهجة كحركة، وتأرجحها بين الضحل والجيد والقليل من التجارب التي يشار إليها بالبنان، مما يطرح كمنتج، على أنه حركة شعرية جديدة ضمن الحركة الشعرية المشهدية، والتي سنعول عليها لاحقاً في العقدين القادمين فيما لو ثابرت وتابعت واجترحت كما فعل السابقون كل في سياق زمنه وتجربته ومجايليه. فقط تطغى موجة الاستسهال والخفة والاستخفاف في تناول الكتابة الشعرية، لكنني أرى دائما الجانب الإيجابي وهو الاصطفاء الزمني لهذه الأقلام. كثيراً ما نسأل عن موقفنا من قصيدة النثر، وأجيب: لا موقف سوى استشعار الخوف من أن استسهال كتابتها جعلها مطية لكل من يريد كتابة «الشعر»، فلا هو بقادر على الموزون، ولا على الإتيان بصورة شعرية بارعة، فكان أن ركب أسهل الأشكال التي تعفيه من إتقان الوزن، أو اجتراح لغة شعرية جديدة، وموقفي واضح وأعلنه وأمارسه وهو أنني مع الشعر والشعرية في أي شكل فني كان. ثمة من يسأل هل الشعر العربي يواكب الأزمات العربية بالقدر اللازم والضروري، أم هو مفردات على الهوامش؟ وأقول بصدق ومسؤولية: لا.. لايواكبها.. بل ويقصر عنها، بل وتخلى عن حالته التنبؤية التي تحلى بها كبار شعراء الستينات والسبعينات. ولايزال على هامش ما يحيط بنا جيل وراء جيل. طبعا لا أقصد المفكرين الشعراء الكبار، فهم ظاهرة أبقت مشكاة العقل والشعر مسرجة، وتورثها من جيل إلى جيل ولكن على فترة من الأجيال. مفهوم الشعر تغير في عصرنا الحالي، نعم.. تغير..وباتت له وظائفَ أخرى.. وهموماً وقضايا تجب مقاربتها بوسائل لغوية وفنية ومشهدية أخرى...نستطيع القول: إن الشعر لاتزال له مكانته، لكنه يحتاج لأن يعود لرونقه ودوره... -لقد غابت الحركة النقدية عن مواكبة المنتج الشعري الجديد، لأسباب عدة منها الكثرة الكاثرة من النتاج التي أخذت تجتاح الأسواق والمكتبات، والتي تنتجها دور النشر، ولعدم تخصص النقاد واشتغالهم بالمهنة الوظيفية لصالح الحركة النقدية العربية، إضافة لعدم قدرة القلة التي تمتلك الموهبة النقدية على مواكبة الكم الهائل من النتاج الشعري والإبداعي عموماً... لكل جنس أدبي فنيته وتقنيته وخصوصيته وأدواته ووسائل إبداعه... لهذا لا ينكر على الشعراء أن يتحولوا إلى كتابة الرواية... أخيراً... رُبَّ سائلٍ ماذا عن الجوائز الأدبية والشعرية التي تضج بها أروقة المهتمين بالفكر والثقافة والمشتغلين بها وعليها، أقول: إن الجوائز تحفز... الجوائز ترسخ الثقة بالنفس.. لكن يجب أن لا تصيب صاحبها بالغرور بالتالي التوقف عندها كمنتج إبداعي دون المثابرة لتحقيق الأفضل... لا تخلو أية جوائز كانت من معايير قيمة جيدة لكن متفاوتة الجودة، وأيضاً من معايير قد لا تكون منصفة ومنحازة للتجربة الأدبية الإبداعية الحقة.. وتبقى مسألة اجتهاد وحظ وفرصة وبالوقت نفسه يحيُّن الوقت والجائزة المناسبة لتقديم المنتج الذي يحقق الفوز. |
|