|
الملحق الثقافي مستويي النوع والكم، والشكل والمحتوى. فله في القصّة ستّ مجموعات هي: «البحث عن سعدون الطّيب 1969»، و«البازيار الجميل 1998»، و«مال الحضرة 1998»، و«غدير الحجر 1998»، و«أرغفة النعاس 2001»، و«الورل 2002». وفي الرواية ستّ روايات أيضاً هي: «حارة البدو 1980»، و«الضباع 1985»، و«الهدس 1987»، و«حارس الماعز 2002»، و«سودوم.. سباق الإوز البرّي 2003»، و«صيارفة الرنين 2008». وتُعنى هذه الدراسة بآليات الاشتغال على العنونة في رواياته، ودلالاتها، ومدى ارتباطها بالمتن، وقدرتها على لفت انتباه القارئ، وتحفيزه، وإثارة أسئلته. استراتيجية العنونة تكشف استراتيجية العنونة عند إبراهيم الخليل عن شغف عميق بالعنوان وإدراك لأهميّته بوصفه عتبة الإغواء الأولى في شدّ انتباه القارئ، وتحفيزه على الولوج في النّص واستنطاقه. وتقوم هذه الاستراتيجية على استثمار مختلف أنواع ومستويات ووظائف العنوان الرئيس، والفرعي، وما يحيط بهما من إشارات وتنبيهات وإهداءات ومقدّمات لتوجيه مسار التلقّي من جهة، والانفتاح على الإيحاءات والدلالات المتعدّدة من جهة ثانية.
ففي مجال تنوّع العنوان ومرجعيته وطيفه الدلالي نرى عنوان روايته الأولى: «حارة البدو» يحيل على فضاء مكاني يتموضع عبر سياق النّص في مدينة الرّقة، فيما يحيل عنوان روايته «سودوم.. سباق الإوز البرّي» في جزئه الأول على إحدى القرى المتعيّنة التي خسفها الله بسبب ما كان يقترفه أهلها من مفاسد، وفق ما تشير النصوص الدينية في القرآن الكريم والعهد القديم. ويأتي الجزء الثاني من هذا العنوان مجازياً منفتحاً على التأويل الذي يوجهه السياق النّصيّ نحو الفرات الذي يغتسل فيه ذلك الإوز. وستتوالى العناوين الفرعية في هذه الرواية ما بين المستوى المجازي التأويلي: «عرش على الماء» الذي يعيّن مدينة الرقّة مكانياً على الفرات، و«العفن الوردي» في إشارة إلى ولع شخصيّة سعيد النهري بالقوادة، و«لحم العجل القرنفلي» الذي يشي بالملذّات المحرّمة، و«نجمة في الغبار» الذي يشير إلى تألّق شخصيّة عبد الله الرفاعي، و«زيزان الظهيرة» الذي يكشف عن العبث والضياع والفساد. والمستوى الإبلاغي المباشر كما في عنوان: «الدكتور عبد الله» في إشارة إلى الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي يُستدَّل عليه عبر قرائن عدّة، منها: اشتغاله في الطب والأدب، وأسفاره، ودراسته في حلب، ودمشق، ومحاضراته، وغير ذلك مما يحفل به النّص ويتناص فيه مع سيرة العجيلي المعروفة.
وعلى المنوال نفسه يأتي العنوان الرئيس لرواية: «الضباع» الذي يحيل على معنيين: مباشر يتمثّل بالصورة المعهودة عن الضبع في الذاكرة الجمعيّة، ومجازي يشير إلى الرغبة في الافتراس والنهش عند الجوع كما عبرّ أحمد العميان، والخيانة التي تمثّلت في شخصيّة وصيف الحلواني ودائرة العسف المحيطة به. وتتوارد العناوين الفرعية في الرواية بين هذين المستويين، فتأتي العناوين المباشرة، مثل: «أحمد العميان يُعيّن معلماً وحيداً في كفيفة»، و«يجري الآن في قرية غير نموذجية تدعى كفيفة»، و«لعبة السكّارات». والعناوين المجازية، مثل: «تداخل» الذي يعاين زمنين مختلفين في حياة الشخصيّة ما بين ماض حافل بالنضال والقراءة والأحلام والخيبات وعذابات السجن، وحاضر يلقي بظلاله البائسة بحثاً عن عمل. و«رحلة الشتاء والصيف» كناية عن رحلتيّ أحمد العميان إلى العراق، وإلى البادية، و«الصيد الأخير» الذي يشي عبر انفتاحه على النّص بخيبة الصبيّة «فرنساويّة» على أثر موت الصيد الأخير الراعي المتمثّل بشخصيّة عمير الأهطل في «لعبة السكّارات»، وخيبة المعلم الوحيد أحمد العميان بتداعي مدرسة القرية الطينيّة أمام السيل العارم قبل أن يدخلها! ولا تنأى رواية «حارس الماعز» عن هذه الاستراتيجية في العنونة، فهي تنوس ما بين عنوان رئيس يحمل معنىً مباشراً يعيّن مهنة حراسة الماعز المنسوبة في النّص إلى «الشيخ سهب المجذوب»، ومعنىً مجازيّاً يتمثّل في الخير المرتجى من هذه الماشية. فيما تأتي مجمل العناوين الفرعية في صور مجازية، مثل: «الطّريق إلى إيّالة الخراب» الذي يوحي بوحشة المكان المقصود، و«بنات آوى تنتظر» الذي يشير إلى المصير الذي سيواجهه الباشا في إيالة الخراب التي وهبها له السلطان العثماني، و«نياشين الهباء» الذي يشي بالمجد الغابر والحرب الخاسرة التي يخوضها الباشا، و«الموتى لا يعضّون» كناية عن النهاية المفجعة للباشا وأعوانه في إيالة الخراب.
وعلى هذا النحو المجازي يأتي عنوان روايته «صيارفة الرنين» بوصفه نقطة تبئير مركزيّة لمصائر شخصياته التي تواجه الفقر في المال وفي الأخلاق ما يجعلها صيارفة للرنين تبيع وتشتري الهباء! وينفرد عنوان روايته: «الهدس» بالدلالة على البيئة الفراتية التي يطلق أهلها على الشاحنة ذلك الاسم! وتدخل الإشارات والتنبيهات والإهداءات والمقدّمات عند إبراهيم الخليل في سياق استراتيجية العنونة بوصفها نصّاً موازياً أو محيطاً يوجّه مسارات القراءة حيناً، ويوضّح أو يضلّل مقاصد المؤلف حيناً آخر! وتكاد لا تخلو رواية من تلك العتبات الموازية/ المحيطة بمتن النّص. ففي رواية: «سودوم.. سباق الإوز البريّ» يُصدّر النّص تحت مسمّى «إشارة» بهذه العبارة: «كل ما في هذه الرواية من أحداث وشخصيات متخيَّل إلا اسم الكاتب فهو حقيقي». ثمّ يأتي الإهداء: «إلى الرقة.. والرقة فقط». ويمكن للقارئ أن يستنتج من «الإشارة» و«الإهداء» أن المؤلف يحترز من أي مطابقة بين الشخصيّات المتخيّلة في روايته وأبناء مدينته الحقيقيين، دفعاً للمساءلة والرقابة. لكن هذا الاحتراز لا يصمد أمام القارئ المطّلع على البيئة الرقّاوية وأطيافها الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة في الأربعينيّات والخمسينيّات من القرن الماضي وهو الزمن الذي تستغرقه الأحداث. وقد تأتي بعض الإشارات والتنبيهات في مطالع الفصول، كما في مطلع فصل «العفن الوردي» من هذه الرواية الذي جاء مصدّراً بعبارة مستقاة من «دليل سياحي» على حدّ تعبير المؤلّف: «هنا حيث لا شيء تراه لا شيء تفعله، قرية كوسموبوليتية وبشر هراطقة ص38». وهي تنطق بلسان حال الفرنسي الذي يتجوّل في البادية، وتمهّد لرؤيته الاستشراقيّة لتلك الأمكنة وناسها. وفي روايته: «حارس الماعز» تتكرّر عتبة «الإشارة» متصدّرة النّص أيضاً، بالعبارة التالية المستقاة من «تاريخ البلد السرّي» على حدّ تعبير المؤلف: «في البدء كان الخراب سيّد المكان وسلطانه ثم جاء الباشاوات ومخافر الدرك». وهي تلخّص نشأة المدينة الفراتيّة ووقوعها تحت سطوة الباشوات والدرك! في إشارة خفيّة إلى تحالف سلطة المال وسلطة القوة. وهو ما سيوجّه القارئ منذ الاستهلال إلى استنتاج ذلك عبر المتن. وينتهي النّص الروائي بعبارة موثّقة من «تاريخ العيّاش ص 18، الجزء الثاني» توهم بحقيقة الأحداث والشخصيّات وتتوخّى إضاءة الشخصيّة المحوريّة «الباشا» ومآلاته، تحت مسمّى «جملة أخيرة»: «وفي سنة /1175/هـ، ولي إيالة «الرَّقة» سعد الدين باشا العظم الذي عُيّن والياً لبغداد في السنة نفسها بدلاً من والي بغداد، ولكن الآستانة، لم تستطع تنفيذ أمرها بتعيين والياً «كذا» من غير المماليك لأنّ هؤلاء، رشّحوا أحد زعمائهم علي بك، فعينه السلطان في ربيع الأول من سنة /1175/هـ على الرقة، وكان الطاعون، فتوفي مطعوناً فيها، ودفن بجامعها الكبير». وتشكّل عناوين النّص الثالث المعنون بـ «فساد الملح» في رواية «حارس الماعز» نمطاً خاصّاً من العنونة تشكّل فيه العناوين مفتاحاً للنّص ودلالة مباشرة على فحواه، وهي غالباً ما تكون بؤر استقطاب مركزيّة لأحداثه وشخصيّاته. فعنوان «الدوّارة» يحيل على شخصيّة فضّة العلاّوي التي قُتل ابنها ليلة عرسه فجنّ جنونها وراحت تدور من شارع إلى شارع بحثاً عن قاتل ابنها لتثأر له. وعنوان «دين صغير» يحيل على شخصيّة خليل الذي يحلل لنفسه الاستدانة خلسة من نذور المقام النقدية واعداً بإيفائها دون أن يتمكن. وعنوان «مجنون الجسر» يحيل على شخصيّة خلف بن شيحان الذي كان حارساً للجسر على الفرات زمن الاحتلال الفرنسي، ومع أن الاحتلال ولّى، ومهمته انتهت، إلا أنه ظل وفيّاً للجسر يحرسه وينام في محرسه المتهدّم صيف شتاء! وعنوان «الدين ممنوع» يحيل على شخصيّة مصارع الصالح الذي وضع لافتة «الدين ممنوع» على باب محله فانفضّ عنه الأصحاب، وما أن مزّقها حتّى عادوا إليه من جديد! ويحيل عنوان «ثورة في خان» على شخصيّة أبي عزيز الذي كان يجمع في خانه الحيوانات المختلفة والحديد والخبز اليابس إلى أن هاجت الحيوانات وقلبت عاليه سافله! ويحيل عنوان: «رأيت غجرا غير سعداء» على مجموعة من الغجر الذين صوّتوا لأحد المرشّحين مقابل تعويض، واكتشفوا فيما بعد أنه سجّلهم في الدوائر الرسمية فطُلبوا إلى الخدمة الإلزامية التي لا تعرفها جماعتهم! تبدو هذه العناوين في هذا النّص من رواية «حارس الماعز» عناوين لقصص قصيرة جدّاً، يرتبط فيها العنوان بالمتن فيثبّته في الذهن ويوسع دلالته. وتتجاور الإهداءات مع العناوين، فيأتي الإهداء في رواية «الضباع»: «إلى عبد الغفور الشعيب»، موهماً بالشخصيّة المحوريّة المتخيّلة «أحمد العميان» أو بسواها من شخصيّات الرواية، وربّما بأحد أصدقاء المؤلف، وهو ما يثير الفضول والتساؤل لدى المتلقّي عن المُهدَى إليه ومسوّغات هذا الإهداء. أمّا في رواية «الهدس» فتأتي الاستهلالات من الموروث الشعبي في معظم فصولها بوصفها مقدّمات تمهّد للأحداث والشخصيّات أو تنبيهات تتعلّق بفنيّة السرد، مشكّلة نقاط استناد مركزية في ذهن القارئ لتأويل ما سيأتي. وهو ما تتوخّاه المقدّمة في رواية «حارة البدو»، وفي النّص الثاني من «حارس الماعز» أيضاً المعنون بـ «ظهورات السيّدة الجميلة»، الذي جاء في مطلعه: «هذه الحكايات نيئة لا يربطها سوى الراوي والمكان.. ولا تكتب إلا بهذه الطريقة وهي مع ذلك نصٌّ واحد ص93». يضاف إلى تلك العتبات المحيطة بالمتن من عناوين وإشارات ومقدّمات وإهداءات، توظيف بنط الطباعة Bold في الجمل الافتتاحية لكل فصل، لتلفت الانتباه إلى تغيّر الإيقاع السردي أو الانتقال في الزمان والمكان والأحداث، كما في رواية «سودوم.. سباق الإوز البرّي»، وفي رواية «حارس الماعز» وفي العناوين الفرعية لرواية «الضباع». تتشابك العناوين الرئيسة والفرعيّة مع السياق النّصيّ وتحيل عليه في المتن عبر عبارات صريحة أو مُضمرة، على نحو ما جاء في «سودوم .. سباق الإوز البرّي»: «تنفّس الدكتور عبد الله الرفاعي الصعداء، رفع قدميه، وأراحهما على الطاولة، وراح في غيبوبة ناعمة، وكأنه يغتسل من غبار الوقت، والكلمات، والأنفاس، والعبارات الفارغة، كما يغتسل الإوز في الفرات ص19». وعلى نحو ما جاء في «الضباع»: «أجوع كالضبع فأبحث عن الجيف لأسكت جوعي ص29». وذلك ما نلمحه في رواية «حارس الماعز»: «عاود الدعاء مرة أخرى، وهو يقترب من زوج الماعز الشامي، الذي أصرّ على إحضاره معه، فهو لا يستطيع فراقه، أو التخلي عنه ص13». وهو ما يتكشّف في رواية «الهدس» أيضا عبر مقدّمة الفصل الأوّل: «عيون الحزينة ضي الهدس بالليل». هذه الإطلالة على استراتيجية العنونة عند إبراهيم الخليل لا تعفي من الوقوف عند تقنيات سرده الروائي في غير دراسة تتناول تعدّد الرواة، وشاعرية اللغة، والغرائبية، والإكزوتيكية، والحكائية، والسيريّة، والبعد الصوفي، والمعجم اللفظي، والتناص، والموروث الشعبي «الحكم والأمثال والأغاني»، وسوى ذلك. المصادر: مؤلفات الكاتب إبراهيم الخليل: ـ «حارة البدو ، دار التنوير، بيروت، 1980. ـ «الضباع » دار الحوار، اللاذقيّة، 1985. ـ «الهدس»، دار الحوار، اللاذقية، 1987. ـ «حارس الماعز»، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2002. ـ «سودوم.. سباق الإوز البرّي»، اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2003. ـ «صيارفة الرنين»، دار الحوار، اللاذقيّة، 2008. |
|