تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


وولت ويتمان أب روحي في مرآة إزرا باوند

الملحق الثقافي
25-6-2013م
بروس فوجيلمان/ ترجمة: مرهف زينو:شكل إصدار ونشر «قصائد أولى» لـ»عزرا باوند» مصدراً غنياً تمت الاستفادة منه للإشارة إلى تميّز أعماله الأولى التي ظلت مدة طويلة دون نشر. فقد أدت لظهور ثلاثة

كتب ومجموعة من الدراسات لإلقاء الضوء على هذه المادة الأدبية الهامة، ومع ذلك بقي الكثير مما يجب إنجازه؛ حيث لم تلق هذه القصائد ذات الاهتمام الذي حظيت به تحفة «باوند» الشهيرة: «الأناشيد»، من مقالات وتعليقات تفصيلية أغنت فهمنا واستيعابنا لـ «أناشيد» باوند. فـ «قصائد أولى» تنضوي على إيحاءات ومضامين تمتلك ذات العمق الذي تضمنته «الأناشيد»، ويمكن لها أن تقدم مفتاحاً لشرح مصادر وأفكار القصائد الأخيرة؛ بل وفهم أعمال باوند بمجملها.‏‏

لعل العلاقة بين «ويتمان» و»باوند» تشكّلُ واحدة من تلك المجالات التي تحتاج إلى المزيد من الدراسة الدقيقة. فالذين درسوا أعمال باوند الأولى كانوا مستعجلين لملاحظة أنه: «قد وقع تحت التأثير الخطر لويتمان»، لكن أحداً منهم لم يذهب أبعد من ذلك في ملاحظة الحضور المحوري لـ»ويتمان في تلك الأعمال. هذا مع الإشارة إلى أن أكثر الدراسات حديثة العهد قد ذكرت أنه «في القصائد المنشورة لـ «باوند» لا يوجد أي أثر لتأثير ويتمان حتى عام 1913». هذا باستثناء الدراسات التي تمت في مرحلة متأخرة من حياة باوند، والأصداء الواضحة لحضور ويتمان في قاموسه الشعري: القافية والوزن والصورة الشعرية، والذي يبرز في قصائد كثيرة مثل «الشهوة -1916 «، وبعد ذلك في فصول من «الأناشيد».‏‏

‏‏

لكن الملفت هو مقالة كتبها باوند عام 1909، ولم تُنشر حتى عام 1955، وفيها يتحدث باوند عن ويتمان بوصفه: «الأب الروحي»، وهو المفهوم الذي ظهر لديه قبل ذلك في قصيدة «عن وجهه في مرآة» كتبها عام 1908 ضمن «قصائد أولى»، حيث يظهر تأثير ويتمان جلياً –كما سنرى- من خلال قصيدته الشهيرة «أغنية عن نفسي» والتي كانت بمثابة الحافز والمفتاح لباوند لكتابة قصيدته.‏‏

يقول ويتمان في الفصل 48 من قصيدته: «أنا أسمع وأرى الله في كل شيء، وعلى الرغم من ذلك لا أفهم الله على الإطلاق! ولا أفهم أبداً: من يمكن أن يكون أكثر جمالاً من نفسي.. ولا أفهم أبداً لماذا يتوجب عليّ أن أرغبَ برؤية الجمال في هذا اليوم؟ أنا أرى شيئاً من الله في كل ساعة وكل دقيقة من اليوم.. أرى الله في وجوه الرجال والنساء.. وفي وجهي في المرآة.. إنني أرى حروفاً من السماء قد هبطت في الشارع، وكل حرف منها يحمل إشارة إلى اسم الله.. وأتركها حيث هي.. لأنني أعلم أنني حيثما ذهبتُ سوف تأتي حروف أخرى.. وإلى الأبد.. إلى الأبد..».‏‏

‏‏

هنا نجد أن «ويتمان» يميّزُ الله في صورته هو، لكن الأمر يختلف عند «باوند»، فالصورة المنعكسة في مرآة باوند صورة متعددة الأشكال، غريبة، و-منفلتة- بشكل واضح ومنفتحة على أي معنى ديني واضح خارج نطاق المعنى «الطاهر» والمقدس. يقول باوند في «عن وجهه في مرآة»: «أوه.. أيها الوجه الغريب في المرآة! أيها الشريك السفيه، أوه أيتها الجمهرة الطاهرة! أيها الحشد الذي لا يُعدُّ ولا يُحصى، الذي يُجاهدُ ويلعب ويعبر.. يداعب ويخاصمُ ويصدق.. أنا؟.. أنا؟.. أنا؟ وأنت؟».‏‏

تبدو قصيدة باوند ساخرة إلى حد كبير، وبمثابة جواب لاذع على ويتمان. ففي الوقت الذي يتساءل ويتمان: «من الذي يمكن أن يكون أكثر جمالا من نفسي؟». نجد أن باوند يصف صورته بأسى وغرابة، وفي الوقت الذي ينطلق ويتمان من صورته الذاتية إلى الوجوه المحيطة به ويتعرّفَ على دلائل الله فيها، ويخلُصَ إلى التأكيد على أنه أينما حلَّ فإن الآخرين هم «حروف أخرى» سوف تستمر بالظهور إلى الأبد.. نجد في الوقت ذاته أن الإشارات في مرآة باوند مجرد إشارات عابرة وزائلة «أيها الحشد الذي لا يعد ولا يحصى..». أي أنها ليست موحدة ضمن دلالة جامعة ومشتركة كما تبدو عند ويتمان، وفي الوقت الذي يؤكد ويتمان على رحابته الذاتية وارتباطه بـ: العام والشمولي، وأن تحقيق الذات مرتبط بعلاقتها بالآخر.. في الوقت الذي نجد أن قصيدة باوند تنتهي بالتأكيد على الذات: أنا.. أنا.. أنا.‏‏

هنا يتبنى باوند- وفي سخرية كاملة من موقف ويتمان- مبدأ تعدد عناصر الذات وامتداداتها، ويعيد صياغتها كي يصور عدم يقينه من رؤيته لذاته وتحققها. وقد استخدم باوند هذه الفكرة مرة ثانية فيما يتصل بويتمان في كتاباته النثرية حيث يقول: «لقد جاء ويتمان قبل أن يمتلك الشعب وعياً ذاتياً، أو ذاتاً، قبل أن يكون الشعب مهتماً بأن يكون ذاته.. لم يكن لدى الشعب مصلحة في أن يرى وجهه في المرآة، كان يريد تاريخاً تقليدياً وكتّاباً تقليديين كما لدى الشعوب الأخرى».‏‏

‏‏

إننا ندرك من السيرة الذاتية لباوند أن قصيدته قد نُشرت في حقبة تتسم بمحاولة «البحث عن الذات» التي تتشكل من مجموعة مكونات و»هويات» منفصلة ومتعددة. وهي بالنسبة إلى شاعر يؤمن أن: «روح الإنسان تتركب من كل عناصر الكون والوجود، وفي كل واحدة من هذه المكونات هناك عنصر واحد مُهيمن، وهو وحده الذي تكمن فيه خصوصية حضور وتحقق «الفضيلة» عند الفرد».‏‏

فأين إذن الفضيلة الخاصة؟ أي وجه من الوجوه التي في المرآة هو باوند الحقيقي؟ وهو الأمر الذي يختلف عند ويتمان الذي يعتبر أنه من الممكن أن تتكون الذات من عدة مركبات متناقضة، لكن في ذات الوقت: «يمكن أن أحافظ على خصوصية فضيلتي».‏‏

ولعل واحدة من فضائل ويتمان التي تحتل مكانة خاصة عند باوند هي اعتزاز ويتمان بكونه فناناً أمريكياً مبدعاً، تماماً مثل «هنري جيمس» و»ويستلر»؛ حيث يعتبر باوند في كتاباته النقدية أن ويستلر قد «أثبت مرة، وإلى الأبد، هو أن كونك قد خُلقتَ أمريكياً لا يمنع من كونك فناناً كونياً، ولا يحول دون تحقيق إنجازات عالمية في الفن والأدب».‏‏

لكن ويتمان كان شاعراً، و»أباً روحيًا» ومثالاً رافداً لباوند -على وجه الخصوص- في محاولته لأن يصل إلى الكمال الفني والإبداعي باعتباره شاعراً أمريكياً وسط موروث شعري عريق لجمهرة من الشعراء الأوروبيين والإنكليز، حيث يتوجب عليه أن «يفجّرَ» هذا الإرث ويقوم بتطويره وتحديثه. لأن ويتمان، حسب ما ذكر باوند في كتاباته النثرية، قد «أسس لما يُدعى الصوت الوطني. ربما لا يحتاجه المرء في البيت أو الوطن. إنه كامن في الهواء، ذلك الجَرسُ الموسيقي و-القرار- المنشّط والفعّال. لكن إذا تحتّمَ على المرء أن يكون في الخارج، وعلى وشك أن ينسى مكان ولادته الأصلي، ويفقد الأمن والإيمان حين يجد نفسه محاطا بالغرباء، فإن بإمكانه أن يجد في ويتمان الباعث على الإنعاش وعودة الحياة، إن ويتمان هو الكفالة الضامنة للأمة».‏‏

إن مفهوم باوند حول أن «روح الإنسان مُكوّنة ٌمن كافة العناصر التي تُشكّلُ أرواح الكون» يتطابق تماماً مع مفهوم ويتمان عن الذات و»الأكوان»، وعلى الرغم من الاختلاف في تجلياتها، كما لاحظنا هنا، إلا أن صورة ويتمان حاضرة في قصيدة باوند، تلك الصورة التي استعارها الأخير وتأثر بها. وقد أشار باوند مراراً إلى علاقته بويتمان حيث يقول: «عندما أكتب عن أشياء محددة أجد نفسي أستخدم قوافيه وموسيقاه، خاصة تلك الأشياء المرتبطة بالوعي الكوني».‏‏

إنه ليس من الغرابة أن يظهر التطابق بين ويتمان وباوند في قصيدة الأخير الشهيرة: «الأقنعة»، وأن يميز باوند في أبعاد الذات الكونية لدى ويتمان وتنوعها؛ ليس فقط وجود عدد غير محدود من الأقنعة، بل حالة من التناسخ والمسخ فيما بينها. وهنا ليس من الغرابة أيضاً أن يظهر التطابق في قصيدة أكثر شهرة لباوند، وهي قصيدة «الشجرة» التي تبدأ بالعبارة التالية: «أنا مازلتُ واقفاً هناك، كنتُ شجرة وسط الغابة».‏‏

هذه القصائد الثلاث: الأقنعة، الشجرة، وعن وجهه في مرآة، تُظهر ميزة هامة في كونها تشكل هوية مركبة لمنظومة مرتبة من «الذوات» المتعددة التي تنساب متدافعة فيما بينها ضمن أنساق الوعي المختلفة، وتدل على مدى التواشج بين رؤية الشاعرين.‏‏

المصدر: مجلة الأدب الأمريكي-المجلد 59 –العدد 4.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية