تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أيها السادة ...احترموا إنسانيتنا!!

آراء
الأربعاء 2/1/2008
نهلة السوسو

لا أعلم رغم تفكيري المتواصل لماذا تغدو رواية الشيخ والبحر لأرنست همنغواي أكثر شهرة وتداولاً من روايةجنكيزايتماتوف:الكلب الأبلق الراكض باتجاه البحر?

في الشيخ والبحر واجه الصياد العجوز منفرداً ثلاث جبهات صعبة :غموض البحر (الشبيه بالعدم) والإدارة في التحدي (الشبيهة بمقارعة عدو شرس) وأسماك القرش (الموجودة في كل مكان وأوان!)ولم يفز ذلك العجوز إلا على جبهة واحدة غير محسوبة هي جبهة البقاء على قيد الحياة حيث عاد من عرض البحر بهيكل عظمي لسمكة نهشتها بنات جنسها المتوحشات وكفين داميتين من المجاذيف وكابوس طويل يلخص مأساة الإنسان على الأرض في مواجهته للمصير وأحلام الخلود الوهمي!‏

في الكلب الأبلق الراكض باتجاه البحر يخرج الصيادون ليقدموا للبحر حسب التقاليد التتريةأوراق اعتماد فتى لم يبلغ الحلم بعد(البحر هو الحياة لأنه مصدر الرزق)بعد حين يقف المركب مبسمراً وسط الماء عاجزاً عن الحركة لأن كتلة هائلة من الضباب تحيط به من الجهات الأربع وتضع الصيادين في عماء أسود رطب (شبيه بالعدم مرة أخرى) ولايموت الصيادون الأربعةمن عصف الأنواء والموج بل من العطش لكأنهم في الصحراء ! يطول مكوثهم دون ضوء دون مزجة ضيقة تسمح لهم باختراق العتمة إلى الضوء يتقاسمون الماء العذب الذي حملوه من البر ثم يتصارعون ضمناً وعلناً على ماتبقى منه ولمن يجب أن يعطى :للأب?للعم?للخال ?أم للفتى المنكود الذي يجب أن يبقى حياً على الأقل كرمز لاستمرار الحياة?‏

أعبر شارع الحمراء غداة وقفة العيد وقد خرجت لتوي من وزارة الثقافة بعد أن أمضيت ثلاث ساعات متواصلة (من الحادية عشرة إلا ربعاً حتى الثانية إلا ربعاً) بانتظار المعتمد المالي الذي سيسلمني مكافأة على عمل قمت به منذ شهرين ليتبين أنه متغيب بسبب أعراض البرد مازلنا في القرن الحادي والعشرين نعطل مصالح عشرات الناس لأن شخصاً فرداً بيده مفتاح لقفل ما!آخذ المكافأة بعد انتظار طويل وجدل عاصف قصير مع موظف أعترف أن لاذنب له بل ذنب التكوين الإداري والوظيفي الذي لاحل له!وأمضي في شارع الحمراء متلذذة برؤية الناس وهم يتسوقون كأنني سائح حل في المدينة وفتنة شكلها اذ لم ارتكب قط خطيئة الخروج من المنزل أيام الأعياد منذ إقامتي في العاصمة الممتدة سبعة وثلاثين عاما بل كنت أشتري ضروريات العيد قبل شهرين من حلوله..‏

كانت الأرصفة تنوء بأقدام عابريها ولصق النعال تتدفق السيارات وهي تزعق دونما أي حاجة للزعيق اللهم إلا وفاء للتقليد الثقافي والسلوكي المستجد علينا ألا وهو:اصرخ وأثر ضجيجاً حيثما تمكنت من ذلك وبمناسبة ودون مناسبة وكنت كلما اقتربت من ناصية الشارع الذي تقوم عليه وزارة الصحة أردد مذعورة من كثرة الخلق :سامح الله تلك الصديقة التي دعتني لقبض المكافأة بذريعة الحاجة إليها أيام العيد!‏

على الناصية انتظرت خمساً وثلاثين دقيقة حيث الميكرو باصات المهترئة تشتهي صور علب السردين ففي تلك العلب ترصف ثلاث سردينات في الزيت لا أكثر بل قد تكون أقل ! أما هنا فالمكبوس أكثر بكثير من طاقة العلبة البائسة!! وماذا عن سيارات الأجرة ? لقد آن الأوان لسائقيها أن يتصرفوا كالأباطرة وأن ينتقموا من الركاب الذين طالما تذمروا منهم وساقوهم إلى فرع المرور أيام الرخاء! قلت لنفسي بعد أن قاربت الساعة الثالثة إلا ثلثاً وعرض علي سائق كريم الخلق إيصالي بمئتين وخمسين ليرة:أعود إلى بداية الشارع الذي أتيت منه فقد تكون الزحمة قد قلت هناك ...وأستغرق ثلاثين دقيقة أخرى دون فائدة إلا إحساسي بوزن الكتب الذي بدأ يزداد على ذراعي أنتقل إلى الضفة الأخرى من الشارع مستعدة للذهاب إلى التضامن عبر حي المهاجرين فأواجه الضباب التتري ذاته مع فرجة وهمية توصلني ثانية إلى ناصية وزارة الصحة فإذ بالورم قد ازداد ولن تفلح فيه جهود كل أطباء الوزارة ..فأتركها خلفي وأتجه إلى فندق أمية ..ثم هبوطاً إلى فندق الفصول الأربعة...‏

هنا توقفي وتأملي عاصمة الدنيا :شبان متلهفون إلى سيارة تحملهم وهم يركضون في كافة الاتجاهات قبل أن ينصرفوا تباعاً في رتل أحادي!‏

سيدة عجوز تحمل أكياساً وتنسى مراقبة حفيدتها اليافعة تزداد شحوباً ويأساً! رجل يرصد بعينيه كل المنافذ كصقر جائع :نهاية زقاق متفرع من جهة دامر امتداد جسر الرئيس النازل من شارع الحمراء الطالع من تفرع فيكتوريا وقربه امرأة تحمل طفلاً يغلي الاثنان قلقاً على الأولاد في المنزل لعلهم عادوا من المدرسة فوجدوه فارغاً بارداً لايغريهم في لقمة الغذاء الساخنة كل مشتريات السوق!‏

أحاول تذكر معالجة همنغواي وايتماتوف لعذابات أبطالهما فلا أفلح لكن أقول لنفسي تعلم اليوغا ضروري وإن كنت لا أؤمن بها! معرفة خريطة المطاعم والمقاهي ضرورية وإن كنت لست من روادها فقد تنفع في مثل هذه الكوارث تنحسر مشاريعي الهاذية فجأة حين يقف أمامي سيارة فارغة ..أتبادل النظر مع السائق الهادئ المندهش من ترددي ولاأصدق أنه سيسمح لي بفتح الباب والجلوس على طنافس الريش والحرير! لا أصدق أن السيارة لي وحدي لا أحد ينافسني عليها ويقفز إلى داخلها رغم أنني فتحت الباب بيدي هذه عادة باتت متأصلة فينا أنظر إلى ساعة يدي التي تخشبت فأجدها بلغت الرابعة والربع ..أردد وأنا أهبط على الكرسي الخلفي :ساعتان ونصف الساعة بالانتظار ?يخفض السائق ثرثرة إذاعة ف.م قد أقتنع ذات يوم بارتياد عيادة العلاج الفيزيائي قد أهرع لحظة وصولي إلى رفوف المكتبة لأعيد قراءة روايات أثرت بي رغم نسيان تفاصيلها !يارب هذه الدنيا منتجة غرائب لاتصدق! حرمنا من مواصلات العمل بشكل مفاجىء يوم رفع سعر البنزين وأصبحنا نتلطم على الطرقات للوصول إلى مبنى الإذاعة حيث تتحدث عن الفرح وراحة البال والتفاؤل وطبق القرار على ذوي الأعمال الحساسة وغير الحساسة كأن مواصلاتنا لم تكن نفس الميكروباصات المنهكة فاخذوا منا ذلك المكتب الغالي وتركونا ندبر رؤوسنا في فوضى لاحدود لها. يسأل السائق المهذب جداً:إلى أين ?ترى لم انحبس صوتي?لم سقطت في تلك الملوحة السوداء?أتدري ياأخي السائق أنني حزينة حتى الموت لأنه لا أحد يفكربنا إلاككتلة أرقام في مركز الاحصاء قل لي :هل تعرف لماذا لم تدخل بلادنا بعد حافلات حديثة ? ألأنهم بعثوامن الموت تلك الباصات المستوردة منذ اربعة عقود,و اعادوا طلاءها من الخارج لننس شكلها القديم? لماذا لم تدخل حياتنا القطارات والميترو التي تحترم انسانيتنا ووقتنا ? اين مشاريع الشركات التي قرأنا عنها في الصحف وقيل إنها ستحل مشكلة المواصلات? قل لي هل هناك من يعرف عدد السيارات الجديدة التي تنزل الى الشوارع كل يوم وقد باتت في متناول دافعي الاقساط والمسؤولين عن المواصلات والمرور يشتكون اكثر منا بأننا نفتقر الى البنى التحتية المناسبة حتى لربع ما لدينا من سيارات قل لي ايها السائق المهذب ,المنقذ,هل لديك إجابة على بعض اسئلتي, مادمت لا أجد من يحفل بالإجابة علي...‏

أشعر بالمهانة,والحزن,والمذلة, وضغط التلوث,والتخلي وكنت أزعم في الماضي ان القراءة تعالج كل اوجاعي لكنني اليوم احتاج لمن يرد لي بعض انسانيتي المجروحة وان يعالج الكارثة القادمة قبل استفحالها كما كانت كارثة السكن قبلها,ألسنا مواطنين صالحين ندفع الضرائب المستحقة علينا دون تقاعس ودون احتجاج?‏

أيها السادة , صاحبي الشأن ,ساعدونا في الوصول الى منازلنا في وقت لا يضاهي الوقت الذي نستغرقه في الطائرة الى اي عاصمة عربية ودمتم لنا لأننا نتعبكم كثيرا بهمومنا.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية