تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


خيري الذهبي: عشت كالوحيد أحب التسكّع وأهرب إلى البساتين

تجارب شخصية
الأربعاء 2/1/2008
آنا عزيز الخضر

الكاتب خيري الذهبي اسم لامع في عالم الرواية العربية ,بصمته المميزة لم تقتصر على مهارته في الحرفة الروائية بجمالياتها وتفاصيلها فقط بل بآلية مهامها في الفضح لبنيات

متعفنة والإشارة إلى بدائل أكثر إنسانية حيث لم يخل عمل أدبي له من الخوف على الإنسان العربي معالجاً أحد قضاياه الوطنية حيناً والاجتماعية حيناً آخر, التاريخية والدينية كما السياسية والثقافية.. فها هي مجموعته القصصية (الجد المحمول) يستحث فيها على مستقبل مشرق رغم سوداوية الحاضر وثقل ماضيه, إضافة إلى طروحات أخرى عن الأحلام الإنسانية المشروعة ثم الأوهام ثم الخرافة, علاقة الغرب بالشرق وضرورة رؤيتها كما هي, وفي روايته الثلاثية- التحولات ( حسيبه, فياض. هشام) ظهرت المرأة الدمشقية بثورتها ومغامراتها إلى آفاق حياتية طموحة رغم الخسارة, وعبر نفس الثلاثية ركز الكاتب عن توقف الحضارة العربية عن العطاء ناسخة ذاتها دون تجديد, رواية (صبوات ياسين) ناقشت الازدواجية عند المثقف ومرواغته السلطان ومجتمعه في آن معاً..‏

شغل الكاتب عضواً محكماً في هيئات تحكيم لعدد كبير من الجوائز الأدبية, له اسهامات في الصحافة وأعمال تلفزيونية عديدة شارك في مؤتمرات روائية كثيرة على مستوى الوطن العربي, من رواياته (ليال عربية, المدينة الأخرى, الشاطر حسن, طائر الأيام العجيبة) للأطفال( الكنز, الناطور الصغير, الرسام الصغير, وغيرها..)التقينا الكاتب (خيري الذهبي) فحدثنا عن مسيرة حياتية ومهنية غنية وعن عوالم مختلفة أثرتها.. جمالية واجتماعية وثقافية فقال: عشت في بيت قارىء فالوالد كان مثقفاً إضافة إلى كونه مدرساً يعمل في سلك التعليم, كان يتملك مكتبة منزلية هائلة, تلقيت تعليمي في دمشق وتخرجت من القاهرة حاملاً الإجازة في اللغة العربية أما دبلوم التربية فمن جامعة دمشق, عملت في التدريس في سورية والجزائر, أول رواية كتبتها كنت في الثامنة عشرة ولم أنشرها, أذكر طفولتي في حي القنوات بدمشق حيث أصر الوالد على وضعي في مدرسة خاصة في الطرف الآخر من دمشق في حي (النوفرة) وكان علي أن أقطع دمشق يومياً أربع مرات من البيت إلى المدرسة التي كانت على دوامين وأنا بعمر الست سنوات, كنت أقوم بهذه المهمة التي رأيتها وقتها شاقة جداً.‏

لكن بعد أن كبرت وتفهمت الأمر اكتشفت كم كنت محظوظاً حين كنت أعيش دقائق المدينة يومياً وكانت ملاعبي إذا ما أردت اللعب, ألاعب الحمام في الجامع الأموي والأسماك الحمر في بحيرة (نور الدين الشهيد) حملت طفولتي الكثير من المتعة, الآن وحين أذكر الجامع الأموي, أذكر قبر النبي (يحيى) الذي كان مزاراً لمعظم الطوائف الإسلامية ولكل مسيحيي العالم, الآن فقط أدرك أن ماكنت أراه في الجامع عادياً, كان شيئا ً استثنائياً لامثيل له في العالم فليس هناك في العالم كله معبدج يقبل المذاهب والأديان كلها في أحضانه ( لكم دينكم ولي ديني).‏

حين أقارن طفولتي بطفولة ابني وهو كاتب أيضاً أجد أن طفولتي أكثر غنى وثراء فهو نشأ في بيت مساحته معروفة, غرفته معروفة, بينما نشأت أنا في بيت مليء بالتاريخ والأفكار فهنا ولدت خالتي وهذا المكان عاشت عمتي, وها هنا أرواح ا لأجداد التي تشتاق لأحفادها فتأتي على هيئة فراشات طالما نبهنا الأهل على عدم إيذائها فدمشق لم تكن قد أخذت شكل المدينة المنفصل عن الريف فالبساتين تتداخل مع المدينة وفي طفولتي كنت أشاهد الحساسين تغني على أشجارها والسناجب تقفز وتعود إلى البساتين, أثر كل ذلك على حياتي وذواكري, وكنت أنا كالفتى المتوحد فأخي الذي يكبرني يكبرني ب 7 سنوات والأصغر مني ب 11 سنة, فكانت تربيتي خاصة نتيجة وفاة الكثير من الإخوة قبل مجيئي, فعشت كالوحيد أحب التسكع وأهرب إلى البساتين أمضي الساعات أتأمل الطبيعة بأشجارها وطيورها ولقالقها التي كانت تزورنا, أبو زريق و أبو الفول.. كلهم جوالون أعزاء على نفسي وذاكرتي.‏

تجاربي الحياتية كانت حاضرة في مواقع عديدة من أعمالي الروائية, وشكلت ركائز لعوالم وشخصيات هامة, مثلاً في طفولتي كان هناك امرأة تزور أمي في بيتنا, تدخن السكائر اللف وتشرب قهوتها, تتنهد وتتحسر على الدوام, أما فضولي (كان دائماً بلا حدود) ويلح علي لأعرف ما الذي يجعل هذه المرأة في حالتها تلك وما الذي يجعل أمي تصر عليها, حتى تجرأت وسألت عن قصتها تنهدت أمي وقالت (الله يعين العباد) وكان علي أن أنتظر سنوات حتى أشب وتكهل أمي وتموت تلك المرأة فحدثتني أمي عن قصة غرام عجيبة عاشتها تلك المرأة مع شاب يصغرها بالعمر ابتزها وابتزلها وأهانها ثم تركها للوحدة القاسية, هذه المرأة بالذات كانت البذرة التي صنعت منها شخصية خالدية في رواية حسيبة, لأنه في بلاد الشام بلاد التكنجية لايحبون المغامرات الكبرى وقصص الغرام يبقونها سراً حتى لايظهر نموذجاً يكسر قانون التكنجية الذي يرفض المغامرة, وقصص الغرام التي يحكونها هي قصص بدوية فلا يمكن أن ترتكب مثل تلك الخطيئة مثل قيس ولبنى - أو عنتره وعبله- لأنه كل شيء لدينا بحساب فأولئك يساومون على القرش والليرة, ولايمكن أن يغامروا مغامرة الحب الكبرى وأقصد بلاد الشام ومن أقليم بكر إلى عسقلان, إنها بلاد التكنجية بامتياز, لذلك ف (خالدية ) خانم علقت في ذاكرتي وحاولت أن أصنع قصة حب خائبة ككل قصص الحب الكبرى.‏

تجربة أخرى أشعلت الشرارة لرواية تحولات والتي تضمنت ثلاث روايات فمنذ أكثر من عشرين سنة كنت في زيارة لأصدقاء لي في حماة, وطلبت زيارة قلعة( شيزر)‏

والتي اشتهرت بأسرة بني منقذ وأميرها الأمير (أسامة بن منقذ) فمضينا إلى تلك القلعة, إلى خرابة قلعة شيزر, الأسوار المهدومة والأنفاق المردومة وبينما كنا نتجول ونصور كسائحين عاديين, رأيت طفلاً وقتها يرعى نعاجاً وجداء في ذات القلعة وما إن رآنا وبدأنا نعاتبه ونمازحه بعد أن طلب منا (سيكارة) نعطيك ولا نعطيك,, وغيرها, كنت أنا أتأمل هذا الصبي, كان خارق الجمال, لكن وجهه مغطى بالوسخ والعرق وسوائل الأنف, وكانت كوفيته أشبه بممسحه لشدة اتساخها, رأيت كل ذلك الجمال المختفي خلف تلك القذراة, ثم تأملت القلعة المهدومة من حولي, وتساءلت.. أليست هذه حضارتنا إذن..? أليست الحضارة العربية الإسلامية.. هي هذه القلعة المهدومة وهذا الصبي المجلل بالوسخ والعرق ما يخفي جماله عن العيون, ثم خطر ببالي, ماذا لو أخذ هذا الصبي من هذه البيئة وعاش في مكان آخر..?‏

وكيف سيكون ..? من هذا السؤال الافتراضي انطلقت برواية (التحولات, حسيبة, فياض, هشام) وكأنها كانت حبيسة وراء غلالة من قش لاتحتاج إلا أن تنفخه كي تنطلق الشرارة فكانت الرواية التي أخذت سنوات وسنوات حتى أن رواية هشام كان اسمها الدوران في المكان لأنه إذا ما نظرنا إلى عالمنا العربي منذ بداية القرن العشرين فنجد أننا ندور في نفس المكان, الأسئلة هي نفسها ولم نصل إلى مايخرجنا من عالمها إلى فضاء الإجابة.‏

تجربة من ذكريات الطفولة لم أنسها وأوحت لي بقصة (السمكة الزرقاء) إذ كنت في أحد تسكعاتي أتنقل بين البساتين, رأيت في أحد الجدوال سمكة زرقاء بطول نصف متر, بهرني جمالها وتثنياتها بين الأعشاب الخضراء قبل التلوث الذي طارد الأنهار والجدوال والحياة, تابعت السمكة وقتها بنظري تحت جسر صغير, انبطحت أنتظر خروجها ولكنها اختفت وانتظرت طويلاً ولم تخرج أبداً, نزلت إلى النهر, حرضت الخبايا وأبعدت الصفائح القديمة, لكن السمكة اختفت وعندما حدثت أصدقائي عما رأيت أجابوني:‏

يالحظك السيء لو قبضت عليها وفتحت قلبها لوجدت فيه (خاتم سليمان) والذي بدعكة واحدة تحقق كل الأماني والأحلام, أسرتني الفكرة, عدت إلى الجدول, تابعته مشيت محاذاة الأنهار القريبة لكن لم أعثر على السمكة التي تحمل خاتم سليمان كي أحقق الأحلام التي حملتها ولم أحققها وضاع العمر وضاعت كغيرها من الأحلام ولم يتحقق منها شيء ليبقى كل شيء معلقاً (الأماني, العدل, الحرية والحياة الأجمل) وحبيساً في دائرة الوهم.. حين سؤال الكاتب عن رؤيته للجد المحمول وارتباطها مع الواقع على الصعيد الحياتي المعاش فأكد قائلاً: منذ أكثر من عشر سنوات حصلت حادثتان في أقصى الشرق وفي أقصى الغرب وفي وقت متقارب الأولى في مدينة أوكلاهاما الأميركية حيث قام عدمي أميركي باطلاق النار على سكان وموظفين فقتل لايقل عن مئتي رجل وامرأة دون سبب, وفي وقت قريب قام (عدمي) آخر في طوكيو فقتل عدة مئات من السكان باطلاق غازات سامة في قطارات طوكيو فتساءلت حينها كما الكثيرون ما الذي جعل رجلين في مكانين مختلفين يقومان بجريمة قتل الجنس البشري دون مبرر أو قضية فيحضرني أن أستذكر مع الجميع القرن التاسع عشر عندما فشلت البرجوازية الكبرى وفشل نابليون من نقل الثورة إلى العالم أجمع عادت الرجعية بشخص( مترنيخ) النمساوي وعادت الكنيسة والملكية إلى فرنسا.‏

ذلك جعل فئة الشباب تصاب باليأس والخيبة والإحساس بانسداد العالم أمامها فلجأت وقتها إلى العدمية والفوضوية وفي القرن الحالي أجهضت الكثير من أحلام الشباب وظهرت العدمية بعد انحسار الحلم الماركسي وبالنسبة إلينا كعرب, كنا قد وضعنا لأنفسنا حلماً آخر إضافة إلى الماركسية, بعد سقوط العثمانيين بأننا سنحقق دولة العدل كما سماها منظروها من الماء إلى الماء, لكن الحلم انكسر والخوف انتشر حتى على الدولة القطرية, فسقوط الحلم لابد من أن ينتج العدمية حيث مقولة (هذا العالم ليس لي فلأدمره) لذلك لانستغرب من ظهور حركات عدمية وبأشكال مختلفة قد تكون اسلامية وقد تكون قومية أو فوضوية وأعود إلى فكرة الجد المحمول التي أخذت حكايتها من » ألف ليلة وليلة) وكيفية استعباد المسن لشاب يجعله عبداً له لا عمل له في الحياة إلا تنفيذ أوامره, لذلك أحذر من خلال الجد المحمول من أعباء جعلت أجيالنا تدفع ثمن جرائم وقع في فخها الأجداد, ومن وجهة نظري ما يحدث في العراق امتداد لحروب الأجداد الخائبين, وأؤكد على هذه الفكرة لأن أميركا انتصرت يوما ما على »ألمانيا) ولم تستطع احتلالها على اليابان ولم تستعمرها, أما في العراق وجدت ثغرات استندت إليها, وأقول ذلك خوفاً على هذه البلاد و مستقبلها كي نعيش في انتظار الغد الجميل وليس لمسح أخطاء الماضي.‏

عن أعماله التلفزيونية قال: تم تحويل روايات عديدة لي إلى أعمال تلفزيونية, لكن لابد من القول بأن الرواية الورقية لها مجالاتها وخصوصياتها لسبب بسيط وهو أن القارىء يصنع أبطاله وشخصياته, مثلاً- روميو, شكسبير قرأه ملايين الناس فكان ملايين من روميو وفيما قدمته السينما كان هناك روميو واحد روميو الممثل والمخرج وبذلك ينحبس ذلك الطائر ليصبح في قفص الممثل والمخرج أقول ذلك رغم أن التلفزيون أداة إيصال هائلة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية