تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مفهوم الحرية في الحضارة الحديثة..

مبدعـــون علـــى صفحـــات «الثـــــورة»
الأحد 1-9-2013
زكي الأرسوزي

طرح مفهوم الحرية في الحضارة الحديثة بجدية أكثر مما كان يطرح في الحضارة السابقة والأسباب التي دعت إلى الاهتمام بالحرية في الحضارة المعاصرة عديدة منها وأهمها أولاً ادعاء الأكليروس حق الولاية على المؤمنين والتدخل في صميم حياتهم،

في تفكيرهم وفي أعمالهم وكان الإكليروس يستند في أدعائه إلى أسطورة تتناقلها الأجيال منذ مطلع القرون الوسطى حتى الحضارة الحديثة ألا وهي أسطورة انتقال خطيئة آدم أبي البشر إلى أولاده وأحفاده، الخطيئة التي سببت تقصير هؤلاء وعجزهم عن فهم الحقيقة تقصيراً يجعلهم يفتقرون إلى إرشاد من فهم من الإله عليه بعنايته أي جعله من الأكليروس.‏

وثانياً ادعاء الملوك والأمراء (رجال الإقطاع) الحق في التصرف في أحوال الرعية وتعيين الوجهة التي يترتب على هؤلاء السير عليها في الحياة دعوة الإقطاع والملوك تقوم على أمرين أولهما صك الإقطاع المحدد فيه من قبل الجمهور والأمراء وتنازل الجمهور عن حريته مقابل تكفل الأمراء الحماية كان العهد المتفق عليه بين أجداد الأمراء وأجداد الجمهور أثناء اختلال الأمن في مطلع القرون الوسطى، تلتزم به الأحفاد من بعد عصور عديدة.‏

وأما ادعاء الملوك فيقوم على أن الملك خليفة الله في الأرض سلطة مستمدة من السماء وليس له أن يقدم حساباً عن تصرفاته إلا أمام الديّان في الآخرة.‏

وثالث سبب في اهتمام الناس بالحرية هو العلم الحديث حتى لقد كانت الحرية موضوع أهم الأطروحات في القرن التاسع عشر والعشرين في فرنسا وغيرها من الأمم معلوم أن العلم الحديث يقوم على فرضية: أن الطبيعة ذات نظام، حوادثها تخضع لقوانين حتمية وأن العقل مؤهل لاكتشاف هذه القوانين فالفرضية قد تحققت في السماء (خضوع الأجرام السماوية للقانون وعلم الفلك) كما تحققت في الأرض (خضوع الذرات للقانون وعلم الكيمياء وخضوع الظواهر الطبيعية من ضوء وصوت.. وعلم الفيزياء) والدليل القاطع على صدق الفرضية المذكورة قيام الصناعة الحديثة على معرفة القوانين الطبيعية.‏

وأما ادعاء الأكليروس في تقصير العقل البشري وعجزه عن فهم الحقيقة فقد ظهر بطلانه في تقدم العلم المستمر في كل منحى من مناحي الطبيعة تشف على العقل الطبيعة في كل منحى من مناحيها إذا ما اكتشف في هذا المنحى القوانين فأفسح المجال لوضع علم من العلوم.‏

هكذا ثبت للعيان أن الإنسان منطو على عقل مؤهل لمعرفة الحقائق الكونية.‏

وأما ادعاء أمراء الإقطاع في حق التصرف في حرية سكان مقاطعاتهم فبدأ بطلانه في فرنسا بثورة مسلحة قام بها الفلاحون والعمال حين هاجم هؤلاء حصون الإقطاع وأحرقوا فيها العقود المنعقدة بين أجدادهم وبين أجداد الأمراء.‏

وقد كان قيام الدولة الحديثة مقام الإقطاع في حماية الناس ورعاية حقوقهم قد مهد السبيل إلى الاعتقاد ببطلان حجة الإقطاعيين وزوال حكمة وجودها كان الأمير الإقطاعي يقوم بمهمة سياسية إدارية ثم تخلى عن مهمته إلى الملك فأصبح بهذا التخلي متطفلاً على الجمهور.‏

وأما ادعاء الملوك في الحق الإلهي المطلق في شؤون الرعية فقد قابله ادعاء معاكس له وهو أن وجدان الجماعة مصدر لكل حق وسلطة وليس القانون إلا مظهراً لإرادة الجماعة والمشكلة القائمة بين الإدعاءين (الملوك والجمهور) قد حسمت بالقوة حين حكم الجمهور الفرنسي بإعدام ملك فرنسا لويس السادس عشر.‏

وهكذا أبطلت الواحدة بعد الأخرى الحجج الموروثة من القرون الوسطى القائمة على الحد من الحرية.‏

ولكن حجة من نوع آخر ظهرت أمام حرية الإنسان في معناها العميق، أمام شعوره البديهي بأنه ذو إرادة حرة يتميز بها عن الأحياء الأخرى، والحجة هذه هي مبدأ العلم وقوامه(مبدأ ؟ الحوادث الطيعة بالقانون وخضوعها للضرورة (فقدان كل تأثير متبادل بين الإرادة وبين الحوادث المؤلفة منها البيئة).‏

فإذا كانت الإرادة من أفق غير أفق الحوادث الطبيعية فكيف تؤثر فيها فتبدل مجراها المحتم عليها؟ أليس في هذا التأثير تناقض لمبدأ العطالة الذي هو أساس العلوم الكونية؟‏

الجمعة 15/10/1965‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية