|
ملحق ثقافي
وقد بينت تلك المناهج استجابة التراث لكل معطيات الطرح النقدي الحديث؛ حيث وجدت تلك الدراسات الأدبَ القديمَ ميداناً ثراً لإجراءاتها النقدية، واستجابته لما يحمله من خصوصية إبداعية إنسانية. وتعددت المقاربات النقدية للشعر الجاهلي، وخصوصيته الفنية، أسلوباً وفكراً ، فحاولت – ومازالت – الإحاطة به على كافة المناهج النقدية. حاول رصد بعض جوانب هذه المقاربات الدكتور محمد بلوحي في كتابه «آليات الخطاب النقدي العربي الحديث في مقاربة الشعر الجاهلي – بحث في تجليات القراءة السياقية». جاء المحتوى في ثلاثة فصول مضت في استقراء ما أنتجته أهم دراسات الشعر الجاهلي وفق المنهج «التاريخي،النفسي،الأسطوري». تناول الفصل الأول قراءة الشعر الجاهلي تاريخياً، من حيث الجذور الأولى، والمصادر، والتركيز على النصوص وتوثيقها استناداً إلى حياة الشاعر وبيئته الجغرافية والسياسية، والدينية، والاجتماعية، وبرز الدور الإيجابي لهذه القراءات بتوثيقها لهذا الفن، وفتحها الباب للدراسات اللاحقة. وقدّم الدارس الأدوات الإجرائية التي اشتغل عليها أسماء من النقاد العرب والمستشرقين، حيث دار الجدل حول أوليّة وجذور الشعر الجاهلي، وتكامله الفني على نحو ما وصل إلينا، متعرضين لمسألة الرواة وماشابها من إشكاليات،فجاءالشك الذي قال فيه مرجليوث وتبعه طه حسين، لكن الدراسات التوثيقية والتاريخية للإبداع الجاهلي قامت على أسس متينة بالاهتمام بمصادر الأخبار، وتبيان صحتها من كذبها. وأتى الفصل الثاني على آليات الخطاب النقدي النفسي للشعر الجاهلي من خلال المقدمة الطللية، والمكان، والزمان، والقلق، وتمت الآليات الإجرائية وفق معطيات المنهج النفسي وما أفرزته مدرسة فرويد ويونغ اللتين أثرتا على الدرس الأدبي، لقد ردّ فرويد الإبداع إلى مكبوتات جنسية تموج منذ الصغر، مجسداً من عقدة أوديب مدخلاً لتحليله، وقال يونغ في النماذج االعليا للبشرية ونظريته اللاشعور الجمعي. لقد اتسعت أطروحات المنهج النفسي في النقد الأدبي، مما حدا ببعض النقاد إلى الانزلاق وراء متاهاته في الإفراط، والغلو بتحويل المنهج إلى عيادة طب نفسي، تأتي بالمبدعين ونصوصهم وتشرع في تشريحهم إكلينيكياً باعتبارهم إنتاج مَرَضي. حاول المؤلف رصد هذه الآليات النقدية، وتجليات الخطاب النفسي بدءاً بالمقدمة الطللية التي تُعتبر ظاهرة فنية، وسنة متبعة في الشعر الجاهلي، وقد حظيت هذه الظاهرة بمبررات قديماً وحديثاً، وتعود الإرهاصات الأولية إلى ابن قتيبة، إذ ربط المقدمة الطللية بالجو النفسي مركزاً على عاملين مهمين « العامل النفسي والعامل الاجتماعي «، وقد أشار يوسف اليوسف إلى ضعف الرؤية النفسية في النقد العربي القديم، ذلك أنها لم تنبن على أرضية صلبة. لكننا لو نظرنا إلى هذا الأمر وفق روح العصر السابق الذي عنى بالبلاغة والمجاز أكثر من أي تصورات أخرى؛ سننفي جلّ ماقال به يوسف اليوسف في ابن قتيبة، لأن آراء ابن قتيبة مثّلت لحقبة زمنية لم يترسخ فيها منهج نفسي أو اجتماعي بأسس وأدوات علمية، وما قال به ابن قتيبة ينم على عبقرية متفردة، وبصيرة نافذة، لتصبح تلك الرؤى إرهاصات أولية لمنهج نقدي حديث. وتُعتبر دراسة سهير القلماوي في مقالتها « تراثنا القديم في أضواء حديثة « من بواكير الالتفاتات النفسية للشعر الجاهلي، وقد أشار المستشرق الألماني» فالتر براونه « في مقالة له في مجلة المعرفة السورية 1963م إلى الجو النفسي في المقدمة الطللية، وربطها بفكرة الوجود التي أرّقت الإنسان الجاهلي، ولم تخلُ هذه من شطط، وقد تعامل يوسف اليوسف مع رؤية فالتر بحذر، ولم يؤيدها. وجاءت دراسة د. عز الدين إسماعيل، وقد بدا متأثراً بفالتر، ونعته كل من حسين عطوان ويوسف اليوسف بأن دراسته محاكية لإنجاز فالتر، وغاب عنها عنصري التفرد والإبداع. وعنت القراءات النفسية بالمكان والزمان، وعلاقتهما بالرؤية النفسية وأبعادها الأنطولوجية، واعتنت بظاهرة القلق الذي انتاب الشاعر الجاهلي حيال الوجود بحثاً في الجذور النفسية قبل تمظهره نصاً. أشار الباحث إلى موجز هذه الدراسات، وخلص إلى أن هذه الدراسات لم تتعامل مع النص الجاهلي تعاملاً إكلينيكياً «سريري» باستثناء قراءة يوسف اليوسف للمقدمة الطللية؛ إذ جعل الشاعر فرداً عصابياً، وبالتالي جاءت قراءته تدور حول النص ووضع مسلّمات مسبقة، والبحث لإثبات هذه الفرضيات المتمثلة بشذوذ الشاعر، ومرضه، وهذا النوع من القراءات يغفل مكونات النص الجمالية تماماً. وجاء الفصل الثالث والأخير للبحث في أهم المقاربات الأسطورية للشعر الجاهلي، فالأنثروبولوجيا تبحث في بدايات الجنس البشري وتاريخه، وقد حظي هذا الاتجاه في الغرب باهتمام بالغ على يد نورثروب فراي، وتايلر وغيرهما، واستمد الدارسون من هذه النظرية الأدوات النقدية لتتوغل في النص وصولاً إلى البدايات الأولى للإبداع البشري، واعتبر فريزر في غصنه الذهبي أن الأسطورة هي الأنموذج الأولي الذي عبّر به الإنسان عن علاقته بالكون، وابتدأ نورثروب فراي نظريته من الأنماط الأولية، واللاشعور الجمعي في كتابه « تشريح النقد «، واتبع هذا التوجه كاسيرر في قراءته للفن انطلاقاً من أن الأسطورة مؤثر قديم وعظيم في الحضارة الإنسانية، وانتقل هذا الاتجاه الدرسي إلى القراءات العربية شأن أي اتجاه غربي آخر، وقد أشار العديد من الدارسين العرب إلى ضرورة دراسة الأساطير العربية أمثال طه حسين، ومصطفى ناصف، ومحمد نجيب البهبيتي، وجاءت الدراسات اللاحقة أكثر جدية وعمقاً، مبنية على أسس علمية من حيث المنهج والأدوات، وأولى هذه الدراسات عنت بميثيودينية الشعر الجاهلي، باعتبار الشعر جوهراً لترسبات قديمة، وهذه الترسبات حاضرة في الشعر الجاهلي» رحم الثقافة العربية». وكانت أولى القراءات الأنثروبولوجية مع عبد الجبار المطلبي بالعودة إلى عصر ما قبل الجاهلية ليجعله المصدر الرئيسي في مقاربته «قصة ثور الوحش وتفسير وجودها في القصيدة الجاهلية» معتبراً أن جوهر النص القديم لغة منسية قديمة وعريقة، وهي بقايا لترسبات ومخاوف وأشواق ترتكز على أبعاد دينية. ومن الدراسات الأنثروبولوجية مقاربة نصرت عبد الرحمن «الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث» استند في قراءته على نظرية يونغ في اللاشعور الجمعي، والنماذج العليا، وبحث في الجذور الدينية الأولى المستندة إلى المنطق الوثني، وجاءت مقاربة علي البطل « الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري – دراسة في أصولها وتطورها «حيث ربط الصورة في الشعر الجاهلي بالمعتقدات الدينية والشعائر. وسعت دراسات عربية أخرى إلى تحليل المكونات الميثيودينية للصورة في الشعر الجاهلي، ومن تلك المكونات «المرأة – الحيوان – بعض مظاهر الطبيعة» كدراسة نصرت عبد الرحمن ذات البعد الأسطوري بقراءة ميثيودينية لصورة المرأة، فقد شبهها الشاعر الجاهلي بالدمى والشمس والغزالة، وتلك دلالات لتماثيل عبدها الجاهليون، ومن ثَم اكتسبت المرأة صفة القداسة عند الإنسان الجاهلي. واتبع علي البطل مقولات سابقه ، وهذه محاكاة لأنموذج قديم تتخلله هواجس الخصوبة كـ تصوير الأعضاء الأنثوية بشكل واضح، وهذا ينبع من لاشعور جمعي كعلامة على الخصوبة والأمومة. وجاءت مقاربة إبراهيم عبد الرحمن على نهج سابقيه، إلا أنه اختلف عنهما في استراتيجية القراءة الميثيودينية؛ إذ أعطى لصورة المرأة المركز الأول الذي تدور حوله الصورة الكلية. ومن المكونات للصورة الشعرية ثور الوحش، وقد ردّ عبد الجبار المطلبي في مقاربته النقدية حضور الثور الوحشي في النص الجاهلي إلى مغزى ديني يعبّر عن ثنائية الحياة / الموت، وتجمع صورة ثور الوحش عند علي البطل بين ما هو أسطوري وما هو سحري، يتجسد الأول من حيث العلاقة بالديانات القديمة، والثاني من حيث الآلية التي تربط قوى الغيب بقوى الطبيعة، وتابعت المقاربات مكونات الصورة متمثلة بمظاهر الكون، وردتها إلى جذورها الدينية الموغلة في القدم، كـ صورة الشمس بمدلولها الرمزي القداسي، وكذلك القمر ومدلوله الميثيوديني، وقد ربط علي البطل بين صورة القمر وبين صورة ثور الوحش التي تشير إلى الإله « ود» أو « سين « أو « شهر» الذي من صفاته « كهلن « أي القدير، وأنه « أبم « أي أب، وبالتالي يمثل ربط القمر بثور الوحش تجسيد السماوي بالأرضي. |
|