|
ملحق ثقافي
فلن يعود إلى المكتبة ليعير الكتب لطلاب الجامعة ، ولن يحضر الشاي ، أو يصنّع القهوة ، كلّ هذا أصبح هباء الريح ، لقد استيقظ اليوم من سباته ، زوجته كعادتها تلقي بمخدة بين فخذيها وتضع أخرى تحت رأسها ، وتكلخ بفمها المفتوح لجوّ الغرفة ، حمل نفسه وذهب إلى الغرفة الثانية ، حيث لا أحد يعكر مزاجه الذي كان رائقاً منذ قليل. سيعدّ فنجان قهوة ويضعه على الطاولة أمامه ، قل لي ماذا يعمل الآن بعد شرب القهوة... يذهب إلى الحديقة العامة ، أم يذهب إلى المقهى يجالس العجزة أمثا... لم يكمل الجملة واستعاض عنها بتلهية نفسه بالنظر في أرجاء الغرفة ، حينذاك لمح صورتها وهي تنظر إليه ، تبتسم له ، تدعوه إليها ، تباركه ، فامتلأت نفسه حيوية وبهجة وحبوراً ، فابتسم لها ، وحيّاها وهي أيضاً حيّته. هكذا تجلس في الصورة ، ترفع يديها إلى ما دون صدرها ، وتقف شاهرة طولها ليملأ فضاء الصورة ، شعرها الأشقر يموج على رائحة قلبه فيجعلها لهيباً حارقاً ، ووجنتاها تصرخ له : أن املأ الكأس بالراح واتبعني ، وقد تبعها زمناً ليس قصيراً ، كان يتبعها أينما حلّت ، وأينما ذهبت ، وها هي الآن في الصورة تنده له ، وتدعوه إليها. كان الأستاذ حمدو شمّام الهوا يمضي إليها في حفلتها ، فيزين الباب بجلسته ، ويضرب صحبته مع البواب ، يسليان بعضهما ، فيما يأتيه صوتها عذباً كنهر صاف ، فيشرب منه أيام الصيف الحارة ، حينذاك تأخذه النشوة الطاغية ، فيخلع حذاءه من قدميه ويستلقي فوق عشب أخضر مملوء بندى صوتها ، وقد يستلقي على ظهره يعد النجوم السابحة في السماء ، لم يكن يهمّه كم هو عددها ، عشر ، عشرون ، ثلاثون ، يعدّها من الأول ، المهم كان «يسلطن» على صوتها. كان يسقيه الترياق القابل للشفاء. وضع الأستاذ حمدو يديه في قلب بعضهما ، وقال : « ما أطيب تلك الأيام « ثم انكفأ على نفسه وراح يصنع قهوته الصباحية ، متمنياً العودة لتلك الأيام التي ذهبت ولن تعود. عاد بفنجان القهوة ووضعه أمامه على الطاولة الصغيرة ، وطلب من اثنين يجلسان مع بعض أمامه أن يسكتا ، ثم قام إليهما ليبلغهما أوامره ، ثم انتبه إلى أنّه يجلس مع نفسه ، استعاذ بالله ، وعاد ليجلس أمام الطاولة ، شرب رشفتين وأغفى. كانت أمامه على الطاولة الصغيرة ، تطلق يديها إلى ما فوق صدرها وتغني ، وتصرخ بالأوف وتغني ، ترتدي الثوب المفتوح عند الصدر ، الثوب ذو الالتماعات التي تعكس الأنوار عليه وعلى جسدها ، فيختلط البريق بالتماعات الثوب ، بجسدها ، بفتنتها ، بغوايتها ، كان يذهب من مكان إلى آخر ويظل ينتظرها حتى تخرج من حفلتها ليراها ، ليلمحها وهي تصعد إلى السيارة ، تكون قد غيرت ثيابها عدّة مرات ، هناك من يحمل لها حقيبة الثياب ويركب سيارة أخرى ، ما أسعده ، إنه يراها ، بينما هو لا يراها إلا من بعيد ، من فتحة الليل ، ذاك الذي تجاوز منتصفه بكثير وسمح للصباح بأن يمسح وجهه بنوره. كان الجميع يركضون من حولها وهي في وسطهم ، تحمل حقيبتها الصغيرة وتسرع ، ها هو النور قد شلع قلبها ، ها هي تبتسم ، تلتفت يمناً وشمالاً ، تبحث عنه فتراه ، تلقي إليه بتحية الصباح، مع ابتسامة ، تكفيه لهذا اليوم ، تكفيه لأيام قادمة ، لعمر سوف يأتي. |
|