|
ملحق ثقافي ثم تخلّقت برهة بمزاج الأطفال وراحت تصفق.. بعدئذٍ حملت ثوباً مطوياً ، ووضعته بعناية في الحقيبة السوداء.
واعتلت شفتيها بسمة ، أو ربما ضحكة خنقتها بسرعة.. ما الذي يمكن أن يسعدها أكثر من العودة إلى البلد ؟. بغيابها عنه لم يعد للحياة معنى.. فلتهنأ.. لتهنأ برجوعها إليه. أخيراً سترسو عند ملاعب الطفولة ، ومرتع الشباب. أخيراً ، وبلا أسف ستغادر النمسا.. ستفارق شعبها الذي كاد يزهق روحها من الملل. لا أحد يتحرّش بأحد. يتبادلون التحيات فقط ، وكل واحد يمضي إلى عالمه الخاص. حتى الذباب إذا اقتحم منزلاً يطلقونه إلى الخارج بمصيدة خاصة حرصاً على البيئة وتنوع الأحياء. هدوء قاتل ، وروتين فظيع يخرجان المرء عن طوره. ساعة فساعة بقيت عشرين سنه تعاني الكآبة.. في هذا المكان المضجر تقارع الوحدة ، ولا أحد يدق بابها.. أو على الأقل يدفع عنها إحساس الغربة الخانق.. آه من حديدي المشاعر !. لا زيارات متبادلة ، لا» مباركات «، لا خروج إلاّ للتسوق وشراء الحاجات. حتى الرحلات الترفيهية كانت تمضيها مع نزار بتأمل الطبيعة ومناجاة الخالق. تنهدت وهي تمسك طرفي الحقيبة وهمست : «الحمد لله». وقبل أن تسمع «طق» التي تؤكد أن الحقيبة قفلت ، اعترضها زوجها قائلاً - انتظري. لقد نسيت الساعات. واحتد صوتها كالتهاب حمى مباغتة : - لا أعلم ما الذي أعجبك بتلك الساعات ؟. علاوة على بشاعتها لن تجلب إلاّ المشاكل. ثم نشلتها من يده بغضب ، ووضعتها قرب الكنزة البنية اللون. ذاب نزار في انفعال أكثر حدة ، فقال : - غداً ترين. الساعات التي كرهتها لمجرد أنها وزعت بالمجان مع سلع أخرى مدفوعة الثمن ، ستحدث ضجة هائلة. وهكذا احتواهما الفضاء في طائرة.. لا شيء أعاق عودتهما. المطارات كانت آمنة.. التفتيش تم بأقصى درجة من التهذيب. والجلوس في «البولمان» كان من أكثر اللحظات سعادة. ولعل التأثر تفقد دارين ، إذ حالما رأت الأهل والأحبة انفعلت بشدة. وما كاد يسألها أخوها عن أحوالها حتى طاف دمعها بصوت متهدج حزين : - أيام الغربة تمر ثقيلة ثقيلة ، كئيبة. كأنني كنت أعيش حياة واحد آخر. بين أتون شجا ليس له نار باغتهم نزار ، في طلة مزاح تفانى وقال : - لا اااا. أنا الرجل هنا. اسكتي يا»مرة».. إذا نزلت دمعة أخرى وقفت في الزاوية عقاباً على البكاء. لن أسمح لك أن تقلبي «ها الجمعة» الحلوة إلى مناحة. ثم مسح بيده دموعها ، وعلى الفور جلب الهدايا. الارتباك وجّه صمت دارين.. هتف في عينيها على نحوٍ شريد. غير أن السّمر سبحوا في زها الأمل. ترقبوا فتح الحقيبة التي أسفرت عن ساعات غريبة الطراز ، لا منطقية المنظر. وامتدت يد نزار إلى ساعد أخيه.. وضع الساعة أسفله. ثم لمس بسبابته زجاج مينائها الأزرق.. وماكان لصوته أن يتهلل بأكثر ما تطيب بنبرة ارتفعت من الحماسة : - هذه الساعة أذكى من عالم نفس.. عندما تلامس الجلد تخاطب الجانب المخفي من الشخص. بمنتهى البراعة تحلل طاقة عقله الباطن وتختار له مهنة تلائم طباعه. وكان الأخ قد طرز الزمن شعره بالشيب.. أقبلت الشيخوخة عليه ، فخالط الجد مزاحه : - الآن تقول لي ساعة ممتازة؟. أين كانت حين كنا شباباً ؟. التقطيبة التي تبعت نظرات نزار إلى الساعة صنعت نوعاً من الرهبة في الصالة : « و شششششش ش» هذا بعض ماسمعوه منبعثاً من الساعة. كل الطنين الخافت.. كل الوشوشة الدائمة.. كل الهمسات المتنافرة لم تطعن انتباههم بحركة أو التفاتة.. ذرّوا دهشتهم صمتاً ، فعلا صوت نزار كصاعقة : - تاجر. تاجر ياجماعة. وتتأفف يا أخي من البيع والشراء ؟. لا مهنة تناسبك مثلما لا ءمتك التجارة. فلنرَ ماذا تخبئ الساعة لعصام !. وفضّل عصام أن يرتديها بمفرده.. ثبتها حول معصمه. ثم راح يبتسم لها بإعجاب. لا يعرف لمَ أعتمت وأضاءت شاشتها ثلاث مرات ، ولا كيف توغلت تكاتها في عقله الباطن فاختارت له مهنة قاضٍ. ما أحسّ به من بهجة غثّ على وجهه إذ عبس وقال : - رحمك الله يا أبي كم كنت صعباً !. هاهي الساعة الآن تختار لي ما عارضته بشراسة. ولكككن ننن.. كيف سأرافع في المحاكم مع ماجستير في هندسة الميكانيك ؟. - احمل هذه الساعة ولا تخشَ شيئاً. بفضلها ستصبح أحسن قاضٍ. جاءتك حالة طلاق لا تتردد !. صوّر الزوج والزوجة وخذ بصماتهما. انقل هذه المعلومات إلى ساعتك. بلمس الزر الأصفر يخرج من طرفها شيء يشبه حبة العدس. ضعه في «اللاب توب» وانتظر دقيقة.. مكتبة قانونية كاملة ستصبح تحت تصرفك. انقر على تشريع تر أمامك مجموعة بيانات تحوي مواد القانون المتعلقة بالطلاق. بَصمتُه وبَصمتُها ستحددان البند الموافق لحالتهما. جريمة مراباة ؟. لا تبحث كثيراً. ملف الفائدة القانونية مدرج بالتفصيل في الغايات غير التجارية. مع بصمة وصورة المرابي سترى العقوبة منصوصة على مدونة خاصة. انبهر صلاح بإمكانيات الساعة. لم يفكر لحظة في لون الميناء. على عجل ارتداها ، وبعد لحظات احتقن وجهه ، وارتعشت شفتاه.. آخر ما خطر على باله أن يصبح طباخاً. وعلا صوته باحتجاج : - بالتأكيد يوجد خطأ. ما رأيك يا نزار في أن أجرب سواها؟. وأعطاه نزار ساعة أخرى فارتداها. ولما أخفقت في اختيار مهنة ثانية أعطاه ثالثة.. لكنها لم تهتد إلاّ إلى رسم قبعة طباخ. وهكذا مص انزعاجه وجلس عابساً. وجاء دور «ضفاف» الصبية المراهقة ، الفائضة الجمال. بمزاج ركب الأحلام ارتدت الساعة. ولم تفصح عمّا كتب في الشاشة. ما إن نظرت إليها بطرف عينها حتى فتحت «الموبايل» على أغنية «رقّصني يا جدع» والهز بدأ. أبعد فأعظم فأكثر قطّب وجه أبيها وتقلقل وانكمش في الغضب. ويا لفداحة وضع الأم !. نهضت لتمنع ابنتها من الرقص فوقعت. علاوة على ساقها التي تورمت ، التهمت رضة جبينها الأبيض. ودارين خجلت.. تاهت بين الحيرة والقلق.. تمنت لو أن زوجها ما صاح أو عيّط حين تلقت ضفاف من أبيها صفعة.. تمنت لو أن نزار تصرف بحنكة ، وما هدد وأزبد. ولقد طال الغضب والحنق ، وهيمن الحرد فصرخت : - ولووووو. أنتم تتقاتلون والشر كة التي صنعت الساعات تبحث وتجرب لتتطور وتربح. ثم انتزعت الساعة من يد ضفاف وأردفت : - في داخل هذه الساعة «كاميرا» صورت وسجلت كل ما دار هنا. غداً سيرسلها نزار إلى النمسا. ولأنها آلات تجريبية لأحدث برنامج أصدرته شركة «بايسروماك»، فلقد قررت أن تجري بعض التعديلات قبل أن تطرحها في الأسواق كسلعة تباع.. أنا آسفة لما حصل الآن. هيّا يانزار. اجمع الساعات «المشكلجية» واجلب الهدايا السلمية. خطفاً قالت دارين الكلمتين الأخيرتين.. لم تنتظر زوجها ، فتحت حقيبتها وأخذت تجمع الساعات ، وتعتذر من الموجودين فرداً فرداً. |
|