|
ملحق ثقافي
أو دلالاتها العامة التي تنتهي بتشكيلها وإدخالها في منظومة علائقية كلية موحدة. فوراء الاتصالات الكبرى لفكر الفنانة ليلى نصير الفني، ووراء التجليات العظمى لشخوصها المتجانسة بروح رمزية ميثولوجية، وخلف صيرورتها العنيدة لتكوين متجانس، سواء أكان شكلاً مفرداً أم أشكالاً عدة، تنكب في تكويناتها على رصد التقاطعات والتشظيات والانشطارات التي تتباين تبايناً كبيراً - كالأفعال والعتبات الإبستمولوجية التي وصفها غاستون باشلار - مطهرة إياها من الواقع وزيفه، لتزج بها في أوهام ميثولوجية خيالية. إذ إن ليلى نصير لا تنحصر في أدائها التشكيلي ضمن نطاق الشكل الواقعي ومعقوليته في دقة التمثيل وضبطه، بل إنها ترتقي به نحو التعبير التجريدي الذي يتيح لها مزيداً من الحرية للإيفاء بحاجاتها الداخلية وتأويل مالا يحصى من إملاءاتها الذاتية.
فمن تقاطعاتها لخلفية اللوحة والشخوص التي تنبني فيها، نراها تصنع من تلك التقاطعات وحدات بنائية متماسكة داخلياً، وهي بهذه التقاطعات تفصل شخوصها عن أيديولوجية واقعهم، وتحولهم إلى كيفيات حسية تنخرط في أفاريز متعاقبة. لهذا فالمشكل عندها ليس هو معرفة نمط الاشتغال الفني والأساس الذي تستند إليه عمليات الانتقال والاستعادة والتكرار، وليس هو مشكل التراث والأثر الميثولوجي، وإنما هو مشكل المتحولات الشكلية والأسلوبية التي تعمل كتأسيس، وبنية جديدة للتأسيس الذي تقيم عليه فكرتها الخاصة في الشكل وأسلوب تشكله واللون والمادة والتعبير، والمستويات التي تضع فيها شخوصها وأشكالها التي ينطوي كل منها على تقطيعاته وتشظياته وانشطاراته الخاصة، وكيفية تحليله وتفعيله المشروع في الصياغة البصرية وتأويلاته الكامنة فيه. وهي بهذا تقطع الطريق أمام جميع مظاهر الانفصال لصالح بنيات تشكيلية لا يمكن للإغفال أن يعرف طريقه إليها.
إن ليلى نصير تنتقل من المنفصل إلى المتصل لا لتأويل البنى الشكلية لأشكال شخوصها، أو لتعيين مدى مصداقيتها، وإنما لقيمها التعبيرية وانفعالاتها الداخلية، فهي تفككها وتنظر إليها بنظرة سينية لتعبر عن انفعالاتها الداخلية وقيمها التعبيرية الجمالية، ومن ثم تعيد تركيبها في مستويات أفقية ورأسية، وتقيم منها سلاسل متصلة، وتميز فيها ما يستحق التمثيل الفني عما لا يستحقه، وعلاقة كل عنصر من العناصر فيها وتعيين حدوده، وإبراز نوع النظام العلائقي الذي يربطه بغيره من عناصر التكوين. ومن هنا كان تنوع المراتب والمستويات وتعددها والفصل بينها وتفرد كل منها بزمنه الخاص به، ومن ثم كانت إمكانيتها متجلية بوضوح في تكوين أحداث نادرة في أزمنة نادرة، شكلها، وعيها، ونمائية عقلها، وبالتالي حملت لوحاتها أسلوباً تعبيرياً خاصاً يميز فنانتنا عن غيرها. لا ريب أن كل شكل من أشكال ليلى نصير يشكل موضوعه ويتماهى معه إلى أن يتحول تحولاً كاملاً. وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشكل الذي تطرحه، هل هو معرفة ما إذا كانت وحدة العمل الفني عندها قد تشكلت بفعل الفضاء الذي ترسم فيه موضوعاتها وأشكالها وتحولاتها وصيرورتها الدائمة من حال إلى حال؟
أم أنها الوحدة التي تجد أساسها في استمرار الموضوع الميثيولوجي ذاته وتميزه؟ حينئذ تسمح لنا ليلى نصير بتحديد عبارة تتعلق بتكويناتها التشكيلية هي: الانبثاق والتكشف المتأني للشكل، وتعاقب منظومة الأشكال بديمومة في مختلف موضوعاتها دون الإشارة إليها بالاسم، وإنما وصفها وتحليلها ومحاكمتها وتقديرها. بمعنى أن وحدة إبلاغاتها المتعلقة بالميثولوجيا لا تنبني على موضوع الميثولوجيا، أو على نشأتها في أفق وحيد الموضوعية، بقدر ما هي فكرة تسمح بإمكانية ظهور الموضوعات والمضامين الإنسانية التي تشتغل عليها. لقد لاح لي أن تشكيلاتها تتميز بأسلوب شكلي محدد وبخصائص وسمات أسلوبية ثابتة تطبع طريقتها في التعبير أكثر من تفردها بموضوعاتها ومفاهيمها. مما يؤكد أن فنون الحداثة وما بعدها لم تعد قائمة على مجموعة من القواعد والنظم الأكاديمية، والمقولات القبلية المتعارف عليها ووصفاتها الجاهزة. وإنما أصبحت تستند إلى رؤية الفنان الذاتية واستعاراته المجازية المنسجمة مع طبيعة الأشياء لا الأشياء ذاتها، وتنظيمها في الحقل الإدراكي حسب ما هو معروف عنها لا هو منظور منها.
لهذا لم تكن تعبيرية ليلى نصير تعبيرية وصفية محضة، وإنما هي تعبيرية انفعالية ذاتية، أعادت فيها قراءة ما هو معطى في الواقع وأعادت بناءه بعد تحليل، ولكن ليس على شاكلته القديمة وإنما برؤية جديدة بفعل تغيير موقعها كذات مفكرة وليست ذاتاً تكتفي بالنظر، فجاءت متحولاتها الشكلية على وفق نظام تعبيري مقنن بأسلوب يتلاشى الشكل الواقعي فيه بمجرد ظهوره، ولم يعرف صياغته الشكلية الجديدة إلا على يد فنانتنا. إن تشكل الحقل الفني ينطوي على أشكال متواجدة ترسم حضوراً لها في البنية الشكلية التي تمت صياغتها فيه، وتجلت بكونها حقيقة مقبولة، أو بوصفها استدلالات مؤسسة تأسيساً كافياً، أو بعدّها افتراضات شكلية لا يستغنى عنها. وأقصد بها الأشكال النهائية التي دخلت في الحقل التصويري وعلاقاتها ذات الارتباط بالتحقق التجريبي الذي يبني الخبرة، أو تلك الإثباتات المنطقية التي تعرضت للمحاورة والنقد، والمحو والطرد، والحذف والتحوير وبتّ فيها، أو هي التي يتقبلها جمهور المتلقين لما تنطوي عليه من دلالات رمزية متوارية تتحكم في انتقائيتها الذات الفنية.
وأعني بها تلك الأشكال التي نفذتها ليلى نصير بتقنية النيكاتيف، وبكيفية يعاد بها تعيين صلاحية الأشكال الآدمية والحيوانية لتحقيق التعبير عن الخصائص البنائية توسيعاً أو تضييقاً، أو لنقل طريقة وصف ملامحها الظاهرة إلى عناصرها الباطنة داخل البنية العضوية، شكلتها فنانتنا على نحو منفصل ومعزول، بخطاطات تحليلية توافقية مجردة، تذكرنا برسوم الكهوف، والرسوم الصخرية في عصور ما قبل التاريخ، كما تذكرنا برسوم فناني إقليم الصفا السوري، وتخطيطات «الحضر» و «جدّالة» العراقية. إذ تحولت أشكال ليلى نصير في تلك التخطيطات تحولاً حقيقياً إلى النزعة التعبيرية التجريدية، فقد كانت تستهدف البحث عن أشكال بسيطة جذابة واضحة التعبير وسهلة الفهم، فشخصت طلالات إنسانية وحيوانية جردتها من كل التفصيلات العارضة، مركزة على الأسس التعريفية لها، فجاءت بهيأة علامات في وسعها - سواء أكانت مفردة أو مزدوجة، بسيطة أو مركبة - نقل العواطف المتباينة بفعل الوقفات والإيماءات المعبرة. وكذا فعلت ليلى نصير في رسوم البورتريه المنفذة بتقنية الباستيل أو المواد المختلفة الأخرى، إذ اختزلت فيها الشكل الآدمي إلى مجرد إشارات وخطوط ملونة نظمتها بإيقاع معين على السطح التصويري بهدف خلق تكوينات تعبيرية مستقلة بذاتها، وعن طريق العلاقات التشكيلية فإنها تمتلك قوتها الموحية. وتوحي أيضاً بالتحول الشكلي والأسلوبي عند ليلى نصير من مرحلة زمنية إلى أخرى، إذ انتهت فنانتنا إلى مزيد من الاختزال والتبسيط للارتقاء بالشكل إلى مرحلة عليا من التجريد لا يمكن التطور إلى درجة أبعد منها دون أن تفقد تلك الرسوم هويتها. لا يحيل تحليلنا النقدي لتشكيلات ليلى نصير إلى أفق مفاهيمي محض، أو إلى فذلكة اختيارية للمفاهيم المجردة، وإنما يتعلق بمستوى تشكيلاتها الفنية نفسها الزاخرة بكم كبير من المفاهيم، وعلى عدد من التحولات الشكلية والأسلوبية التي تصيب تلك المفاهيم وعلاقتها بها في الآن عينه. بمعنى أن مفاهيمها تفرض نفسها في التشكيل ذاته. |
|