|
ملحق ثقافي تطل برأسها في هذا المكان أو ذاك، من بلادنا العربية، لا سيما في البساتين والأرياف القصيّة،
حيث لا زال بعض الفلاحين، يصرون على إشادة بيوتهم منها. كما يقوم حتى تاريخه، بعض القبائل وفئات من الناس، في العديد من دول العالم الثالث، باعتماد الطين، الخامة الرئيسة في عمارتهم السكنيّة والخدميّة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر «المعماريون الحفاة» في «تبلونيا» بالهند، حيث لا زالوا يحرصون على إحياء المعارف الريفيّة التي كادت تموت، مع هجرة الريفيين إلى المدن. فقد بدأ هؤلاء بإنشاء «كلية الحفاة» في هذه المنطقة بولاية «راجستان». ومع مرور السنين، أصبح هذا المركز ينمي الخبرات والإمكانات، وتم وضع خطة إنمائية شاملة، حملت شعار «فقراء الريف من أجل فقراء الريف» وكان حرم «كلية الحفاة» هو الميدان المعماري الأول للتطبيقات التي أعادت استخدام الأخشاب وبقايا المعادن المتوافرة من مخلفات الآلات الزراعيّة وعربات الثيران، وأجزاء المضخات، إضافة إلى القش والطين.
ثمة تجربة أخرى أقيمت في مدرسة زراعيّة لتربية الدواجن في «كوليابيه ـ كينديا» بغينيا، حيث تُشاد المساكن التقليديّة البسيطة في هذه المنطقة، من الطوب الطيني بعد معالجته، وهو من نوعيّة بدائيّة ترد على المناخ السائد ولا تحتاج إلى طلاء. وفي سورية، لا تزال بعض القرى المتناثرة بين حماة وحلب، تستخدم الطين في إشادة بيوت دائرية الشكل، تعلوها قباب مخروطيّة. د. محمود شاهين: موضع اهتمام على الرغم من بساطة وبدائيّة البيوت الطينيّة والمواد والخامات المنفذة منها، وهي مأخوذة مباشرة من البيئة الأقرب، حظيت باهتمام المعماريين والاختصاصيين، وعكفوا على دراستها من النواحي كافة، لا سيما بعد أن اكتشفوا مدى ملاءمتها وانسجامها مع بيئتها، واحتضانها لمقومات وخصائص معماريّة فريدة، إن من ناحية التصميم، أو الوظيفة، حيث أنها ردت على المناخ السائد في المكان الذي أشيدت فيه، فكانت منسجمة معه كشكل وكوظيفة.
بمعنى أنها جاءت متوافقة مع محيطها المعماري والطبيعي، ومع حاجات ساكنها إلى المأوى: له ولحيواناته وغلاله. كما أنها، وفرت عزلاً ممتازاً للبرودة في الشتاء، وللحرارة في الصيف، إضافة إلى جماليات نادرة في التصميم، حققها بانوها، بشكل تلقائي وعفوي. مهندس عمارة الفقراء في طليعة المعماريين العرب المعاصرين الذين أولوا العمارة الطينيّة جل اهتماماتهم المهندس المصري «حسن فتحي» الذي أُطلقت عليه جملة من الألقاب منها: «مهندس عمارة الفقراء، سيد البنائين في القرن العشرين، شيخ المعماريين، أبو المعمار العربي»، لإسهامه الكبير في التأسيس لمفهوم جديد في العمارة، يربط بين الإنسان وفن العمارة، حيث أراد تحويل العمارة إلى سكن وسكينة عند الإنسان، من خلال ابتكار طرز وتصاميم معماريّة بسيطة، تنفذ من مواد وخامات البيئة المحليّة، وذلك حفاظاً على الإنسان والبيئة في آنٍ معاً، لا سيما الإنسان الفقير في الريف والمدينة على حد سواء.
ولد حسن فتحي في مدينة الإسكندريّة عام 1900 وتوفي عام 1989. تعلق منذ الصغر، بالعمارة الطينيّة، فدرس نماذجها، وتعمق بالطرز التقليديّة المحليّة الموجودة في مسقط رأسه، ثم لاحقاً في حي «الجماليّة» حيث استقر وأسرته. التحق بمدرسة «المهندسخانة» بجامعة فؤاد الأول «وهي كلية الهندسة في القاهرة حالياً» وتخرج فيها العام 1925. عمل مهندساً في إدارة البلديات التابعة لوزارة الداخليّة حتى عام 1930 عُين بعدها أستاذاً لمادة العمارة في مدرسة الفنون الجميلة، ثم أوفد إلى باريس لنيل شهادة الدكتوراه في الهندسة المعماريّة، ومنها اكتشف حسن فتحي توافق العمارة الغربية التقليديّة مع الموروث الثقافي السائد في باريس، وتالياً مع متطلبات الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والخدميّة، ما دفعه للبحث والاشتغال على هذا التوجه، معتمداً عما لدى ذاكرته البصريّة من مخزون كبير، لعمارة بلاده، تشكل فيها، منذ وعي أهمية العمارة في حياة الإنسان، لا سيما منها الإسلاميّة والمحليّة التي غابت أو كادت، من العمارة العربيّة المعاصرة، الأمر الذي دفعه لإعادة النظر فيها، والتمعن بدراسة قيمها الجماليّة والوظيفيّة، وتوافقها المدهش، مع محيطها، وردها على المناخ السائد في هذا المحيط. العمارة الطينيّة
أول ما لفت انتباه حسن فتحي في التراث المعماري المحلي، المباني الريفيّة الطينيّة المنسجمة مع بيئتها، فوضع أولى تصاميمه لها عام 1937، ونفذ المجموعة الأولى منها عام 1941 في، مدينة «يهتيم ـ الجيزة» التي شكّلت نقطة الانطلاق، لإعادة النظر بهذا الطراز المعماري المحلي الهام، ومن ثم الاستفادة منه، في وضع تصورات واقتراحات، لإعادته إلى أرض الواقع، برؤية معاصرة، تراعي المواد المحليّة الداخلة في تنفيذه، وتوافقه الشديد مع حركة الناس في أسواقهم ومساكنهم وأمكنة تجمعاتهم المختلفة، والانسجام الكبير بين هذا الطراز والبيئة الطبيعيّة والاجتماعيّة، وكان حسن فتحي في هذا الوقت، يشغل وظيفة رئيس قسم العمارة في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة. العام 1945، أُفرز فتحي لدائرة الآثار، ما وفر له فرصة كبيرة لمتابعة أبحاثه في استنباط طرز معماريّة محليّة جديدة، اعتماداً على التراث البعيد والقريب لبلاده، وهذه المتابعة قادته إلى إنجاز قرية «القرنة» مقابل مدينة الأقصر الأثرية، بهدف إنقاذ المقابر الفرعونيّة وما تضم من لقى أثرية هامة، كانت موجودة تحت منازل القرية القديمة، عمل السكان المحليون على انتشالها والمتاجرة بها.
غلبت السمة المعماريّة الإسلاميّة، على قرية حسن فتحي هذه، متماهية بالخصائص المعماريّة الطينيّة الشعبيّة المصريّة. خصائص ومقومات نهضت مفاهيم حسن فتحي المعماريّة على جملة من الخصائص والمقومات المستقاة من التراث المعماري المحلي، بعد دراسة مستفيضة لطبيعة المناخ السائد في المكان الناهضة فيه، إن لناحية توافق شكلها مع محيطه، أو لناحية وظيفتها في الرد على عوامل الجو المختلفة، من هذه المقومات والخصائص، مساحة الشباك القادر على زيادة كميات الهواء التي يُدخلها إلى البيت، وعلاقة ذلك بكميات الحرارة التي يدخلها إلى نفس البيت أيضاً، وضرورة التوفيق بين الأمرين، من أجل هذا، اقترح المشربيّة التي بإمكانها التخفيف من الاثنين، وفي نفس الوقت، تمنح البناء تشكيلاً جمالياً رائعاً، يحرك باقي عناصره ومفرداته ويغنيها بصرياً، يُضاف إلى ذلك، توافقها مع العادات والمفاهيم الاجتماعيّة الشرقيّة، في حجب الرؤية من الخارج إلى الداخل، والسماح بها من الداخل إلى الخارج، وهذه الخاصية لجأ إليها المصممون المعماريون حالياً، من خلال استعمال الزجاج العاكس للرؤية من الخارج، والسامح بها من الداخل. في رحاب العالمية
نتيجة التصميمات المعماريّة المتميزة التي ابتكرها حسن فتحي، لا سيما نموذج «القرنة» فقد أدخلت هذه التصميمات إلى المناهج الدراسيّة في كليات وأكاديميات هندسيّة عالميّة كثيرة منها: معهد العمارة الاستوائية في لندن، ومعهد بوسطن، وذلك كنموذج مثالي للعمارة الريفيّة. وفي ديسمبر «كانون الأول» 1959 حصل فتحي على الجائزة التشجيعيّة على تصميمه المتميز لقرية «القرنة». وفي العام 1963 عُين مديراً لإدارة تخطيط الإسكان في وزارة البحث العلمي. وفي العام 1969 عمل مع الأمم المتحدة كمدير للمشروع النموذجي لإعادة تعمير مدينة جدة السعوديّة، وحصل في العام نفسه، على جائزة الدولة المصرية التقديرية في الفنون، كما اختير رئيساً لمجمع الدائرة الدوليّة لتخطيط وعمارة القاهرة في العيد الألفي لإنشائها. قام المعماري حسن فتحي بوضع تصاميم معماريّة للعديد من المباني والتجمعات السكنيّة في مصر والمكسيك والعراق والولايات المتحدة الأمريكيّة وباكستان. تابع تلاميذه الكثر التوجه الذي اختطه، فأقاموا العديد من المشروعات في الكويت والأردن. آراء وأفكار يرى حسن فتحي أن أعظم ما أهدته مصر إلى المدنيّة هو «الطوبة» فقد كان اختراعها هو بداية المدنيّة وانتقال الإنسان من حياة الغابة إلى الحضارة، ومن يومها والبناء أثمن تراث مصر بلا منازع، وهذا الاختراع، يعادل في أهميته الفلسفة الإغريقية، والقانون الروماني في التاريخ الإنساني. ويضيف فتحي مؤكداً، أن المهندس المعماري في مصر القديمة، شكّل أول أعمدة الحضارة والثقافة، وكانت المعرفة الكاملة لأسرار الكون والطبيعة شرطاً لا بد من توافره لكي يصبح مهندساً يُسند إليه بناء قرية أو معبد أو قصر الفرعون. وعبر المعرفة تلك، وصل ثلاثة من المعماريين الكبار إلى مرتبة القداسة وهم: أمحوتب الذي صمم هرم زوسر، وسنحون معمار الدير البحري، وامنحتب ابن هابو معمار الأقصر. كان فتحي يردد أنه إذا امتلك أموال العالم لما فعل سوى شيئين: الأول أن يشتري يختاً، ويتفق مع فرقة أوركيسترا، ويبدأ إبحاراً لا ينتهي حول العالم، مع أصدقائه، منصتين لباخ وشوبان وبرانر. والثاني إشادة قرية يسير فلاحوها على النهج المعماري الذي عمل لأجله. وضع حسن فتحي عدداً من المؤلفات أهمها «عمارة الفقراء» الذي وضعه باللغة الانكليزيّة، وتُرجم إلى 23 لغة من بينها العربية، وقد اعتبر هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لمهندسي العمارة في جامعات العالم. أكد فتحي في كتابه على أن العمارة ليست مجرد المكان الذي نسكن فيه، لكنها جزء من الشخصية الوطنية للإنسان. |
|