تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الثقافة البصرية.... سطوة الصورة إعلامياً

ملحق ثقافي
19/ 6/ 2012
محسن المقداد:إنها الصورة:حدث أن عرض طائر معروف بانتمائه إلى منطقة «بريتاني» الفرنسية على أنه نورس سقط في بقعة نفط تعمد الرئيس صدام حسين – حسب التقرير –

على نشرها في منطقة الخليج كدليل على تهور الرجل‏‏

وشهوته لتدمير أي شيء، ولاحقها جملة من التقارير والصور لمواقع يروم الرئيس تدميرها لإفناء العالم. هذه الصورة وغيرها دفعت «جون ديفيس» وهو مواطن من كاليفورنيا إلى الاختباء في أحد الكهوف خوفاً من القوة التدميرية لصدام حسين، والتي أعلن توني بلير وقتها بأنها قادرة على إفناء العالم خلال أقل من ساعة، وساعدته صور متلفزة أعدت لهذه الغاية. والغريب في الأمر أن الإعلام نفسه سخر من ديفيس وتعجب لرجل سجن نفسه وعائلته منذ العام 1991 إلى العام 2001 هرباً من إفناء العالم.‏‏

أعتقد أن هذه الحادثة تحمل في داخلها تناقضها، فالإعلام الذي ضخ لهذا الرجل وغيره سيلاً من الصور يطلب تصديقها يعجب كيف يمكن لشخص يذهب به التصديق هذه المسافة، فاعتبره مجنوناً وختم تقريره بالقول إن «الشرطة أنقذت العائلة من هذا الرعب الذي مارسه» حسب الإعلام أيضاً فإن «ديفيس» هو من مارس الرعب على عائلته وليس الإعلام نفسه.‏‏

هنا نجد أنفسنا إزاء مسألتين بحسب الأولى: الإعلام يقدم صورة مطلوبة التصديق ويجتهد في اختراع أدواته التي تمكنه من ذلك؛ وبحسب الثانية يتعجب ويطلب منا «تعجبنا» من رجل صدق هذه الصورة واتخذ موقفاً حياتياً بناء عليها.‏‏

لكن الصورة تبقى مادة أولية يقع عبء تفسيرها على المتلقي. فكل صورة هي مشروع مضمر تنتج الدلالة عن طريق التأويل، يبدو وكأن نخب تقليدية تفقد وصايتها واحتكارها للتأويل ليوضع في يد مشاهد سيجرب حيادية الصورة معتمداً على مخزونه الثقافي بسيطاً كان أم تراكمياً ليضعها في نسق صوري صانع للتصور وتكون بالضرورة ضمن سياق يصنع إحالتها المرجعية.‏‏

مملكة الضرورة‏‏

بدأت الصورة كنسية دينية وبهالة نورانية حول الوجه حماية من الشر حتى القرن الخامس عشر، فمع رسم «أرنو لفيني» لزوجين وكلبيهما الصغير المتمدد بطمأنينة تحت قدميهما قد أعطى للصورة بعداً حياتياً واقعياً، ثم تحولت إلى شيء أكثر واقعية وحياتية؛ إنها «أجزاء تفصيلية لواقع يراد جمعه في أذهان مستقبليه؛ حيث ستلعب دوراً كبيراً في تحديد الأفكار والاتجاهات حسب تلقيها سلباً أو إيجاباً، والسؤال: في رحلتها هذه من التخيل إلى الواقع ما الهالة التي ستحميها من الشر؟‏‏

إنها علاقة جديدة نشأت بين الجمهور والصورة، إذ تكاد تكون «ملحمة جديدة» تتحدى الخطاب الكلاسيكي القديم والراسخ، فالعنف ليس جديداً بل يكاد يصنع جلّ التاريخ الإنساني، لكن الجديد هو إمساك لحظته في صورة ونقله عبرها لتصبح الصورة إحدى مكونات الذهنية وجزءاً من التفكير، فنشهد صراعاً بين أنساق الثقافة الصورية؛ إذ تتبع الصورة، الصورة لتأكيدها أو نفيها. فكل توجه جارف يدفع أمامه «صوراً» تصنع لنفسها توجهاً يقر بوجودها، وتبتكر نسقاً مواجهاً يرفض الاستلاب.‏‏

الصورة الآن باتت تحمل الشيء ونقيضه، فنسق الهيمنة يستبطن في داخله نسقاً آخر للرفض. وهذا لا يعني أن أي نسق منها قد أزاح الآخر ليحل محله، وإنما تجاورت وكأنها شكل جديد من الحوار، فالدخول إلى فضاء الصورة يتم بشرطه ومنطقه ومدى قابليتنا للاستلاب من طرفه. فصناعة الصورة تكون وفق ذلك حجر الزاوية في الخطاب الإعلامي وتكتسب درجة الضرورة بين مختلف عناصره.‏‏

الصورة بمنطق مختلف‏‏

تداهمك الصورة وحيداً، لا يسعفك العقل بغير إرجاعها إلى معارفك الأولية، ولكل منا أوهامه وقناعاته التي يحاول جر الصورة لتنطق بها، فنحن في اللحظة «صفر» للصورة متساوين في استقبالها مما يقطع بأن الاختلاف هو أحد مكوناتها وكأننا أمام وحدة معرفية خصوصيتها في تعددها الذهني، إذ لا نفكر بما هو كائن فيها بل فيما نتمنى لو أنه يكون، فالصورة وسيلة يتم بناؤها بشكل يؤدي إلى السيطرة. يمكن هنا ذكر ما كتبه «فيلي ستيفيه» «بأن الحدث يصور بطريقتين مختلفتين فبينما يظهر مصور شراسة القتال الناشب في الاضطراب، يقوم زميله بإظهار شراسة الشرطة لفض هذا الاضطراب». في هذا التصوير تبدو الواقعة واحدة والحدث واحد لكن الأيديولوجيا حددت جهة التقاط الصورة وطريقة تقديمها. الصورة هنا أصبحت فعلاً وليست ردة فعل يدخل معها شكل آخر من التفكير قائم على أسس المفاهيم، فالمعرفة في تحولها إلى إعلام «صوري» تمر عبر التعرف المنطلق أساساً من الواقع الاجتماعي، فالصحفي يأخذ هذا الواقع ويخضعه لعملية تحليل واختبار تؤدي به في النهاية إلى صياغة قائمة على المعرفة وتعود بشكلها النهائي إلى الجمهور «المجتمع»، فالصورة لا تنقل الحقائق وإنما المعرفة عن هذه الحقائق.‏‏

لكن الصورة/ الحدث في لحظة التقاطها تغفل لحظات سبقتها وأخرى لحقتها مما يقطع بتشوه المعرفة وربما زيفها. في مأساة راوندا والتي تنبه إليها الإعلام بعد مضي وقت، كانت الصورة المتاحة لجماعات يبدو عليها الإجهاد ترتحل إلى مكان غير معلوم لا يمكن لرائيها سوى سفح عواطفه من جهة وحنقه على الواقعين خارج الصورة لما اقترفت أيديهم، لكنها فيما تبين لاحقاً كانت لقبائل «الهوتو» التي أبادت نحو مليون نسمة من قبيلة «التوتسي» والصورة لمغادرتهم منهكين لكثرة القتل. يرى ايناسيو رامونه «أن التناقض الصارخ والمتزايد بين الوقت الإعلامي والوقت السياسي هو ما يدفع وسيلة إعلامية إلى الكذب» يصدق القول عن وسيلة إعلامية تبحث لخبرها عن دعم باستكناه سند بصري، ولكن ماذا عن الانتقاء والاصطفاء؟ فعمليات الاختيار وتحديد الشكل ضروريتان طالما أننا نسعى إلى تحقيق هدف معين للإعلام.‏‏

الأيديولوجيا تجعل «الإخبار الصوري» مثار خلاف عميق، فوسائل الإعلام تعتمد في تحديد مكانها على قواعد اللعبة السياسية، والتي يمكن لها أن تختلف بين مكان وآخر، فالإعلام عادة يتبع أكثر مما يقود ولكنها في الآن نفسه مولعة «بالميلودراما» إذ تحول ظواهر شديدة التعقيد إلى مسألة صراع بين الخير والشر. وهذا تبسيط يتم الاتجار به بوصفه مشروعاً سياسياً.‏‏

يقول أندريه غازو «ليس هنالك من صورة بريئة»، وبالتالي قد نخلص إلى ما ذهبت إليه د. تهامة الجندي بقولها «تجري اليوم محاولات حثيثة عبر وسائل الإعلام لصياغة الإنسان المعاصر وعياً وسلوكاً وفق نموذج معد مسبقاً». عبر ثنائية الاختيار والاستبعاد يتم صرف الأذهان نحو تلق مقرر مسبقاً، هنا لا يعرض الإعلام صورة على المشاهد لكي يفكر ويقرر، وإنما يعرض أمراً وخلاله يسوق الطريقة التي يجب أن يفكر فيها لاستنبات رأي قائم على توجه يتصنع الخيارات.‏‏

في صورة توقف اللحظة داخل إطارها يخبرك رولان بارت واصفاً إياها «مجزرة في كمبوديا: الموتى ينتشرون فوق درجات مدخل أحد الأبنية المهدمة. أعلى المدخل يجلس فتى يحدق في المصور. لقد انتدب الموتى أحد الأحياء لمهمة النظر إلي، وفي نظرة الفتى تلك تحديداً أراهم أمواتاً».‏‏

لقد انتهى الأمر وتقرر. لا مكان لأي تأويل أو تفسير آخر. هكذا تقرر الصور وشارحيها فمع السرعة واللحظوية أهم صفات الصورة، وهما صفتان تعطيانها قوتها وتأثيرها لا بد لها من التمدد في فعل حاضن ومنتج يفسرها أو يعيد تأويلها. ومن هذا الباب تتمادى الصورة في جلب العالم إليك ودعوتك للمشاركة رغماً عنك، فلو سلمنا بصحة المثل الإنكليزي القائل «بيت الرجل قلعته» فإن الصور البصرية المتلفزة هي حصان طروادة المتسلل إلى هذا الحصن ليخرج من جوفه ما يضعف سيطرة الرجل «رب العائلة» على مملكته.‏‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‏‏

المراجع:‏‏

- جيل دولوز الصورة – الزمن ت / حسن عودة وزارة الثقافة 1999‏‏

- د. تهامة الجندي الإعلام العربي / قلق الهوية نينوى 2005‏‏

- مايكل سكدسن علم اجتماع الأخبار ت / أحمد رمو الهيئة العامة السورية للكتاب 2010‏‏

- ايناسيو رامونه الصورة وطغيان الاتصال ت / نبيل الدبس الهيئة العامة السورية للكتاب 2009‏‏

- وسائل الإعلام والمجتمع آرثر آسا بيرغر ت / صالح أبو إصبع عالم المعرفة الكويتية مارس 2012‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية