تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سليمان العيسى دمشق حكاية الأزل

ملحق ثقافي
2018/8/14
رشا سلوم

تمر هذه الأيام ذكرى وفاة الشاعر العربي الكبير، سليمان العيسى الذي قال ذات يوم: أنا خلية من ملايين الخلايا في جسد عربي تبحث عن مثيلاتها. وهو الذي نذر عمره للوحدة،

غنى آمالنا وآلامنا، وحين وقعت الهزيمة في حزيران يمم وجهه شطر الأطفال، نذر لهم إبداعه، لعلهم يكونون الجسر الذي يبني ويصل أمجاد الماضي بالحاضر والمستقبل، من منا لا يحفظ أناشيده الساحرة التي كانت رفيقة الدرب؟‏

‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏

سليمان العيسى رحل عنا وهو يردد: لا تخافوا على سورية، سورية بخير، لأنه يعرف أن نبض الشعب السوري لن يكون إلا قوة وعطاء، وحضارة تتجدد، نعم إنه سليمان العيسى الذي ولد النعيرية في أنطاكية من لواء إسكندرون عام 1921 (توفي في 9 آب 2013 عن عمر 92 سنة). تلقى تعليمه وثقافته الأولى على يد أبيه أحمد العيسى في القرية، فحفظ القرآن والمعلقات وديوان المتنبي وآلاف الأبيات من الشعر العربي. ولم يكن في القرية مدرسة غير (مدرسة الكُتَّاب) التي كانت بيت الشاعر الصغير، والذي كان والده الشيخ أحمد يسكنه، ويعلّم فيه.‏

بدأ سليمان العيسى كتابة الشعر في التاسعة أو العاشرة، فكتب أول ديوان من شعره في القرية، تحدث فيه عن هموم الفلاحين وبؤسهم. دخل المدرسة الابتدائية في مدينة أنطاكية - وضعه المدير في الصف الرابع مباشرة – وكانت ثورة اللواء العربية قد اشتعلت عندما أحس عرب اللواء بمؤامرة فصله عن سورية.‏

شارك بقصائده القومية في المظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء اللواء ضد الانتداب الفرنسي على سورية وهو في الصف الخامس والسادس الابتدائي.‏

غادر لواء إسكندرون بعد سلخه، ليتابع مع رفاقه الكفاح ضد الانتداب الفرنسي، وواصل دراسته الثانوية في ثانويات حماة واللاذقية ودمشق. وفي هذه الفترة ذاق مرارة التشرد وعرف قيمة الكفاح في سبيل الأمة العربية ووحدتها وحريتها. دخل السجن أكثر من مرة بسبب قصائده ومواقفه القومية.‏

شارك في تأسيس حزب البعث منذ البدايات وهو طالب في ثانوية جودة الهاشمي بدمشق - وكانت تسمى «التجهيز الأولى» في ذلك العهد - في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي.‏

درّس في دار المعلمين ببغداد، عمل مدرساً في مدارس حلب وموجهاً أول للغة العربية في وزارة التربية السورية. وهو عضو جمعية شعر التي أسسها أدونيس ويوسف الخال. انتسب مبكراً لحزب البعث وكتب مجموعة من الأشعار العروبية.‏

له ديوان ضخـم مطبوع تغلب عليه أناشيد الأطفال. وقد كُرم بالعديد من الجوائز والاحتفاليات. كان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1969 م. يحسن الفرنسية والإنكليزية إلى جانب لغته العربية، ويلم بالتركية.‏

زار معظم أقطار الوطن العربي وعدداً من البلدان الأجنبية. وقد أقام في اليمن لعدة سنوات. اتجه إلى كتابة شعر الأطفال بعد نكسة حزيران عام 1967 م.‏

شارك مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض في ترجمة عدد من الآثار الأدبية، أهمها آثار الكتاب الجزائريين الذين كتبوا بالفرنسية. شارك مع زوجته الدكتورة ملكة أبيض وعدد من زملائه في ترجمة قصص ومسرحيات من روائع الأدب العالمي للأطفال.‏

وفي عام 1990 م انتخب عضواً في مجمع اللغة العربية بدمشق. في عام 2000 م حصل على جائزة الإبداع الشعري، مؤسسة البابطين.‏

اعتمد سليمان على أبعاد تربوية في أشعاره التي كتبها للأطفال والشباب، متأثراً بخلفيته السياسية. من تلك القصائد: مع الفجر، شاعر بين الجدران، أعاصير في السلاسل، ثائر من غفار، رمال عطشى، قصائد عربية، الدم والنجوم الخضر.‏

ديوان الأطفال‏

في هذا الديوان يخاطب الشاعر الطفولة بقيثارة الطهر والبراءة، وهمسات الوفاء والحب. كما أنه حرص فيه على استخدام اللفظة الرشيقة والسهلة، والموحية الخفيفة، ذات الإيقاع السريع الذي جعل من تلك القصائد أناشيد: «أنتِ نشيدي عيدكِ عيدي/ بسمـة أمّي سرُّ وجودي». وبالإضافة إلى ذلك، أعطى سليمان العيسى في قصائده اهتماماً بالصورة الشعرية الجميلة التي يسهل ترسيخها في ذهن الطفل، والتي يستقيها الشاعر عادة من واقع الأطفال، أو من أحلامهم وآمالهم: «أنا عصفور مـلء الدار/ قبـلة ماما ضوء نهاري/ من زهرة واحدة لا يصنع الربيع/ تساندي تساندي يا وحدة السواعد».‏

كما غنى سليمان العيسى للعرب الصغار بقيثارة الطهر والبراءة والأمل، عزف للكبار سيمفونية البطولة والكفاح والفداء، وذكرهم بما حققه أجدادهم من تضحيات وانتصارات، ودعاهم إلى المقاومة والانتفاضة ورفض الاستعمار والهزيمة واليأس والتطبيع. وقد كان سليمان العيسى - كما يقول عبد الله أبو هيف-، سباقاً إلى الاستجابات المباشرة للعمليات الفدائية وتوثيقها وتخليدها في الذاكرة مثلما فعل في مسرحيته «قنبلة وجسد» التي بناها على حادثة الفدائي العربي عرفان عبد الله الذي سقطت منه قنبلة يدوية وهو يبتاع الطعام لرفاقه في عمان، فصاح بالناس ليبتعدوا وارتمى فوق القنبلة فغطاها بجسده كي لا تؤذي أحداً. وقد أصبحت هذه المسرحية رمزاً لفعل الفداء والتضحية، ونشيداً لتكريم الشهادة والشهداء. إلى جانب ذلك، مازال سليمان العيسى، والذي سجنته سلطات الاحتلال الفرنسية في شبابه بسبب مواقفه المعادية للانتداب، يناضل بالكلمة من أجل تحقيق الوحدة العربية، وكتب عدداً من القصائد التي تجسد معاناة الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضته ضد الأطماع الصهيونية والعنصرية التي لم تكف عن الفتك بأرواح الأبرياء وتدنيس الأراضي والمقدسات العربية والإسلامية.‏

وعنه تقول رفيقة دربه الدكتورة ملكة أبيض: عُرِف سليمان العيسى شاعراً قومياً جماهيرياً. بدأ إلقاء الشعر على أطفال قريته.. ثم على رفاقه في المدرسة.. فعلى مواطنيه في (نادي العروبة) بأنطاكية.. وفي شوارعها. همُّه الأول لم يكن الشعر، بل النضال في سبيل قضية كبرى:‏

لست شاعراً..‏

أرضُ الآباء والأجداد، أمُّ الشعر، وخالقةُ الشعراء،‏

تريدني شيئاً آخر..‏

تريدني حُلماً أصلب من الحقيقة، وأكبر من الواقع،‏

وأبعد من حدود (الجُثَّة) التي تتحرك‏

ما بين المحيط والخليج..‏

تريدني عربياً.. يبحث عن هُويته..‏

عن جوهر وجوده..‏

عن جذوره العميقة في أرضه،‏

يبحث عن أمته..‏

نعم، عن أمته العربية.‏

وسار في هذا الدرب الشائك ما يزيد على نصف قرن.. وهو يقاتل بالكلمة، بصوت مُدَوّ، بل ومجلجِل، في معظم أرجاء الوطن العربي، وتلقَّته جماهيرُ عطشى.. تتوقف إلى الخلاص من الهاوية التي أوقعتها فيها عصورُ التجزئة والاحتلال. كانت تردّد معه مثل هذه الصيحة:‏

أمةُ الفتح لن تموتَ، وإني‏

أتحدّاكَ - باسمِها - يا فناءُ‏

وتجيء كارثةُ حزيران عام 1967م التي قال فيها:‏

(الكارثةُ تفلُ روحه.. تسدُ عليه المنافذ.. تذبحُ في عينيه النور، تدفنه حياً.. طَوالَ عام كامل لم يستطع أن يقول بيتاً.. أن يكتبَ كلمة.. طَوالَ عام كامل كان يتنفَّس الذُلّ ويختنق بالعار.. ومن يختنق فإنه لا يستطيع أن يكتب).‏

تلك كانت بداية انهيار الحلم، وتلتها الخيبات، واحدة إِثْر أخرى. ويحمل الشاعر أحلامه الموءودةَ وينهض، يبحث عن كُوىً للأمل والحركة، ويبدأ من جديد.. مرةً بعد مرة. ومع كل بداية كانت النبرةُ تَخْفُت، والحكمةُ تحلُ محل الاندفاع. في أدب الأطفال الذي اختار اللجوء إليه، مع اشتداد الضربات، تناولَ موضوعاتٍ تتصل باهتمامات الصغار وحاجاتهم، فتحدث عن الطبيعة، والألعاب، والهوايات، والأسرة، والمدرسة، والأحلام والآمال، والعمل، والوطن.. ونوَّع طرق المخاطبة، فقال الشعر، وكتب المسرحية والقصة الواقعية، والخيالية، وعرَّب آثاراً أجنبية لإغناء هذه التجربة، أو شارك في تعريبها. وفي نتاجه للكبار رأى الابتعاد عن الأحداث المباشرة بقدر يُتيح الإصغاء إلى العالم الخارجي، وتأمُّل ما وراء الواقع، وإلى عالمه الداخلي الذي أغفله فيما مضى، أو قل صَهَره في الهم العام، ففي (الثمالات) بأجزائها الخمسة، وغيرها من نتاجه خلال هذه الفترة الأخيرة، توزَّع نتاجه بين الشعر والنثر، وبين عدد كبير من الموضوعات التي أراد فيها أن يقدّم نفسه للقارئ بكل ما فيها من انفعالات وأفكار ورؤى وهواجس.‏

حكاية الأزل‏

أما دمشق فلها مكانتها عند الشاعر الذي قدمها على أنها حكاية الأزل، فهي حكايتنا العربية التي لا تزال تعبق بالمجد والشعر والياسمين وتنشر أريجها الخالد بين قرطبة وسور الصين، مشيراً إلى ديوان الشاعر «حكاية الأزل ديوان دمشق» الذي يؤرخ اللحظات التاريخية والإنسانية حيث يقدم في قصائده صورة تحمل عبق الذكريات.‏

نعم، إنها آلامنا وأحلامنا جسدها الشاعر، ومضى لكن إبداعه باق فينا، فالعظماء لا يرحلون تبقى أعمالهم الخالدة نبراساً، والشام ووردها، نصرها، كبرياؤها، الأمة العربية هي ميراث حضاري لابد أنه سوف ينهض أليس هو القائل: لو مقاتل الحلك الباغي ننتصر؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية