|
ملحق ثقافي أحد التبريرات لدى الليبراليين لهذا السلوك، يرتكز على الميول العاطفية. المسؤولون السياسيون المحافظون عادة يستخدمون عبارة «الحقائق التي لديّ لا تهتم بمشاعرك». ما يعنيه المسؤولون بهذه العبارة هو أن استعمال المرء للمشاعر والعواطف كأساس للسياسة والفعل هو أساس زائف. مشاعرنا يمكن أن تكون مضللة، عواطفنا قد تتغلب على عقلانيتنا، والحقيقة لا يهمها ما نشعر به.
التكرار في استخدام فكرة «المشاعر كحقائق» في الخطابات العامة، قد يقود المرء للاعتقاد بها كموقف أيديولوجي رسمي. ورغم أن هذه الفكرة لم تُدرّس رسمياً، لكن المطّلعين على الأصول الفلسفية والأيديولوجية للّيبرالية يعتقدون أن هذه الفكرة اندغمت كأيديولوجيا ضمن نسيج الليبرالية. لكي نفهم متى تصبح المشاعر أساساً للحقائق يجب علينا الاطّلاع على أفكار وأعمال الفيلسوف الشهير جان جاك روسو. أيديولوجيا روسو احتوت على الوضوح والدقة في فرضية اعتبار مشاعر الفرد كأساس للحقائق. نقطة الانطلاق الأكثر أهمية هي إيمان روسو بالصلاح أو الخيرية الطبيعية للإنسان. ومن هذه الخيرية الطبيعية للإنسان، تتبع جميع مقدمات روسو واستنتاجاته. أعلن روسو: «المبدأ الأساسي في جميع الأخلاق، وهو المبدأ الذي فكرت به في جميع كتاباتي والذي طورته بكل وضوح، هو أن الإنسان كائن خيّر بطبعه، يحب العدالة والنظام، وأنه لا يوجد شذوذ أصلي في قلبه، وأن أول الحركات في الطبيعة هي دائماً خيرة»(1).
الخير الطبيعي للإنسان، هو أهم مساهمات روسو للأيديولوجيا الليبرالية. روسو، كما الليبراليون الذين ساروا خلفه، اعتقد أن الإنسان هو خيّر بطبعه، نقي ومتسامح، لكن المجتمع هو الذي يفسده. هو جادل بأن الإنسان خيّر بطبعه، وأن الناس يصبحون أشراراً فقط بواسطة تلك المؤسسات. (2). شرور العالم لا تأتي من داخلنا، وإنما تأتي من الخارج عبر المجتمع. لكي نخلق عالماً أفضل يجب علينا إصلاح المجتمع. إن شهرة روسو تأتي من روايته الشهيرة Julie or the New Heloise (3). العنصر المثير للانتباه حول هذه الرواية، هو أن الشخص الذي يقرأها اليوم لا يستطيع فهم أهميتها الثقافية بدون تعليق أكاديمي حولها. وكما ذكر الفيلسوف إرنست كاسيرر Ernst cassirer «اليوم رواية Julie or the New Heloise ككل هي بعيدة عنا، نحن لا نستطيع أن نشعر بتأثير فوري للقوة التي تحركت بها حين هزت القرن الذي عاش فيه روسو». في هذه الرواية استبدل روسو مفاهيم القيود والعقلانية بفكرة المشاعر والعواطف كباعث رئيسي لسلوك الإنسان.
وكما قال كاسيرر عن الرواية، «الشعور رُفع الآن فوق «الانطباع» الخانع والإحساس المجرد... لم يعد يبدو كمقدرة خاصة للذات وإنما كمصدر ملائم لها – كقوة أصلية للذات، منها تنطلق وتنمو جميع القوى الأخرى». اعتقد روسو أن المشاعر هي أصل الأخلاق. هو مجّد عواطفه كأساس أخلاقي شرعي وعادل. «روسو حدد مبدأ الخير الأخلاقي بالمشاعر الإنسانية الإيجابية».. اذا كانت مشاعره تشعر بالخير، عندئذ فالعمل خيّر، ويجب على المرء القيام به. يربط روسو الأخلاق بالتلقائية والعفوية الحرة. إن عقل المجتمع الخيّر لا يتهدد بالحوافز الأولى للإنسان التي هي دائماً خيرة. الخيرية الطبيعية للإنسان تجعل حوافزنا الأولى أخلاقية، ولذلك نحن يجب متابعتها، عواطفنا ورغباتنا هي بطبيعتها أخلاقية. في عالم روسو، «الأخلاق ذاتها تتطلب من الفرد الاستماع فقط إلى قلبه والخضوع بلا جهد لأوامره الراهنة. نحن يجب علينا فقط الاستماع إلى قلوبنا بسبب خيريتنا الطبيعية. عندما قال روسو «أولى حركات الطبيعة هي دائماً خيرة»، هو يعني أن المرء «يتصرف فقط وفقاً لحوافزه وعقله». إن الخيرية الطبيعية للإنسان تعني أننا ل اننطوي على الميول للشر. هذه الخيرية الطبيعية تجعل أفعالنا رقيقة، بشرط أننا نرغب جيداً. وكما قال روسو «أنا أهب نفسي إلى انطباع اللحظة بدون مقاومة وحتى بدون تردد، لأني متأكد تماماً أن قلبي يحب فقط ما هو خير».
حالياً، جرى التوسع في تطبيق معنى المشاعر كأساس للحقائق: الخيرية الطبيعية للإنسان تعني أن جميع أفعاله ومشاعره وحوافزه هي أخلاقية وعادلة، وهو لهذا يجب أن يتبعها. هذا عملياً يعني أن الشيء الوحيد الذي يهم هو الذي نشعر فيه بالخير في ما نعمل، وأن تكون نوايانا خالصة. نتائج شعور الفرد وأعماله ليست مهمة جداً لروسو وأتباعه. إذا كان المرء ينوي جيداً لكنه لا يعمل جيداً، فإن النتائج المؤذية ليست مهمة. يرى روسو أن «الشخص الشرير هو فقط منْ يريد الشر ويخطط له سلفاً. الشخص الشرير وحده سيُعاقب». أثناء فترات الجنون والفوضى، هناك لحظات من الأعمال المؤذية المقبولة طالما هي لم يُخطط لها سلفاً. فقط الشخص الذي يرتكب عمداً عمل الشر سيكون مذنباً: «الإنسان يُعاقب فقط على أخطاء رغبته، وإن الجهل الشديد لا يمكن اعتباره جريمة».. خيرية روسو الطبيعية قصد بها أن نواياه كانت دائماً نبيلة، لا أهمية للنتائج. طالما أن خيريته الطبيعية هي المرشد له، فإن ثقته الذاتية في أفعاله بقيت آمنة: «لا يمكن أبداً للفطرة الأخلاقية أن تخدعني». هذه الثقة في صلاحه الأخلاقي حفزت عقيدته بأن الشيء إذا كان يجعله سعيداً أو يشعر بالخير، فهو خيّر. ونفس الشيء يصح على السلبية: إذا جعله الشيء يشعر سيئا فهو سيئ. وكما يرى الدكتور كارول بلوم، إن روسو أوضح مراراً أن سعادته اعتمدت على اتحاده مع الخيرية. ولذلك، فإن أي شيء يجعله غير سعيد، يجب أن يكون شراً وزائفاً. فطرته أخبرته بأنه إذا كان الشيء يجعله يشعر سيئاً، فهو يفسد خيريته الطبيعية، ولذلك هو غير أخلاقي. ويستمر الدكتور بلوم «مع هذا الأساس الثابت، هو يمكنه الحكم على قيمة الحقيقة في أي ادّعاء... بمعيار مباشر: هي إما تتناغم مع شعوره بالخير، أو أنها تهدده. ثقة روسو في صلاحه الأخلاقي الطبيعي أثبتت صحة عقيدته بأن إحساسه العاطفي هو المقرر الحقيقي للأخلاق. خيرية روسو الطبيعية كانت هي بوصلته الأخلاقية. هذه البوصلة الأخلاقية وجّهتهُ داخلياً نحو شعوره لغرض التقييمات الأخلاقية. هو لم يكن بحاجة للنظر إلى الخارج بحثاً عن مصدر للأخلاق: «أفعال الوعي ليست أحكاماً وإنما هي مشاعر. ورغم أن جميع أفكارنا تأتي من الخارج، إلا أن المشاعر التي تقيّمها هي في داخلنا، وإننا من خلال هذه المشاعر وحدها نملك معرفة بملائمة أو عدم ملائمة العلاقات بين أنفسنا والأشياء التي يجب أن نبحث عنها أو نتجنبها». يدّعي روسو أنه لم تعد هناك ضرورة لكي ينظر كل شخص إلى أسلافه أو إلى من يرشده على الاتجاه. من الآن فصاعداً، نحتاج فقط النظر إلى الداخل، ونستشير مشاعرنا. من بين النقاد الذين انتقدوا روسو علناً هو إدموند بورك Edmund Burke. اعتقد بورك أن أيديولوجيا روسو كانت «شكلاً آخر للانسياق وراء مذهب المتعة hedonism».. يفهم بورك أن خط روسو من التفكير «مكّن مذهب المتعة الحديثة من إخفاء ذاته كعقيدة مشابهة للحركات الدينية... إنها عرضت ديناً شخصياً للخلاص الاجتماعي من خلال الشعور وحده». «نحن يجب أن نكون بسطاء إلى حد سذاجة الأطفال، لكي نرى كل الناس فضلاء. الناس في الحياة العامة كما هم في حياتهم الخاصة، البعض خيّر، والبعض الآخر شرير. تمجيد البعض والحط من البعض الآخر هو أول أهداف السياسة الحقيقية(4). اعتقد بورك أن الناس قادرون على عمل الخير العظيم، ولكنهم أيضاً قادرون على ارتكاب الشر العظيم. هو أدرك أننا يجب أن نبقى حذرين من الشر المختبئ في عقول البشرية. بورك اعتقد أن التمجيد اللاملائم لعنصر الخيرية في الإنسان وتجاهل الشر فيه، يدعو إلى نتائج خطيرة. «لا أمان هناك للناس الصادقين، ولكن عبر الاعتقاد بكل الشر المحتمل للناس الأشرار، وعبر التصرف بسرعة دون إبطاء واتخاذ القرارات والثبات على تلك العقيدة». الاعتقاد بالخيرية الطبيعية للإنسان يتجاهل إمكانية الشر، تاركاً الباب مفتوحاً لأسوأ الاحتمالات. على عكس روسو، بورك لم يهتم كثيراً بنوايا الفرد، وإنما اهتم كثيراً بالنتائج: «أولئك الذين لديهم نوايا جيدة، يجب أن يخشوا من التصرف السيئ». النتائج هي كل ما هو مطلوب، لا يهم كم هي النوايا جيدة. اعتقد بورك أن الحكم على الفرد على أساس النوايا بدلاً من النتائج، هو في الحقيقة «أسلوب سخيف للحكم». يرى بورك أن الإنسان يجب أن ينظر إلى الخارج إلى أسلافه كمصدر للسلوك والحكمة: «نحن نخشى من أن يُترك الناس يعيشون ويتاجرون بما لديهم من مخزون خاص للعقل، لأننا نشك بأن المخزون لدى كل فرد هو صغير، وأن الأفراد سيقومون بما هو أفضل لينفعوا أنفسهم من البنك العام ورأسمال الأمم والأجيال». (5) بورك يفهم بأن التفكير الطبيعي للفرد، لن يكون بنفس عمق حكمة الأسلاف التي تُركت له عبر العادات والتقاليد. هو اعتقد أن النظر نحو الداخل، كما يشير روسو، سوف يقود إلى موتنا المفاجئ. بورك يؤمن أن العادات والتقاليد والقانون هي «اختيار مقصود وواع للأجيال، إنها دستور أحسن بعشرة آلاف مرة من الخيار، دستور صُنع بظروف معينة، مناسبات، أمزجة، ميول وعادات أخلاقية مدنية واجتماعية لأناس كشفوا عن ذواتهم عبر فترات زمنية طويلة». اعتقد بورك أن عادات المجتمع وتقاليده هي تراكم لعدة أجيال، ولذلك هي تحتوي على حكمة ظروف الإنسان. «الفرد هو سخيف»، لا فرد يستطيع امتلاك كمية كافية من الحكمة ليستبدل العادات والوصفات والتقاليد. إن أفكار روسو أصبحت المصدر في اعتبار الشعور أساساً للحقائق الليبرالية المعاصرة. الرؤية الواقعية لبورك -المؤسس للفكر المحافظ الحديث- لكلا جانبي طبيعة الإنسان، تستمر كمرشد لفكر المحافظين الحالي. إذا كان كل من الليبراليين والمحافظين يؤمنون برؤى مختلفة عن طبيعة الإنسان، فهم سوف يستمرون في الجدال حول أفكار هذين الرجلين. ......... الهوامش (1) روسو وجمهورية الفضيلة: لغة السياسة في الثورة الفرنسية Carol Blum، جامعة كورنيل 1986. (2) الخيرية الطبيعية للإنسان: ول نظام روسو الفكري، آرثر ميلزر، جامعة شيكاغو 1970. (3) هذه الرواية كتبها روسو ونُشرت عام 1761 في أستردام. وهي عبارة عن مجموعة رسائل بين حبيبين يعيشان في مدينة صغيرة أفل جبال الألب. الرواية تنطوي على نظرية فلسفية حول الأصالة، حيث يشير روسو إلى الاستقلالية والأصالة كقيم أخلاقية. في الرواية أعطى روسو قيمة للأصالة أعلى من المبادئ الأخلاقية العقلية، فهو يشير إلى أن تطبيق المبدأ الذي يفرضه المجتمع على الفرد يجب أن ينسجم مع المشاعر والمبادئ السرية للفرد، وأن يكون جزءاً من هويته الرئيسية. وبهذا فإن السلوك غير الأصيل سوف يمهد الطريق للتدمير الذاتي. شوبنهاور اعتبر الرواية رابع أشهر الروايات في العالم، وكما يشير المؤرخ روبرت دانتون أنها طُبعت 70 مرة لغاية عام 1800، ولم يستطع الناشرون تلبية الطلب المتزايد عليها من القرّاء، ما اضطرهم إلى تأجيرها لأيام وحتى لساعات. (4) إدموند بورك والقانون الطبيعي، peter stanlis,Huntigton house,1986 (5) المناقشة الكبرى، إدموند بورك، توماس بان، ومولد اليمين واليسار، Yuval Levin، باسك بوكس، 2014. |
|