|
آراء وبأنني لاأحبهم من أجل الاشتهاء، المرأة تخاف من الرجل الذي لايرى فيها سوى جسد مشتهى، لأنها لو سمحت له يصبح وحشاً بكل ما لهذه الكلمة من معنى، الحب الزاهد يمشي على مهل.. ليس فوق الأرصفة الحجرية، بل فوق الورد، بطيئاً وعلى مهل، والمرأة تحب هذا الحب مالم تكن من طينة أخرى.. طينة الجسد وفورانه، والزهد في كل شيء يقدم لنا الحياة كماهي، الزهد في الصداقة والعلاقات الاجتماعية، الزهد حتى في الطعام، عندما تزهد في كل شيء تنزاح عنك الأطماع والتكالب والغدر بأقرب الناس منك، تصبح كما لوأنك ترى الحياة من الداخل، من الأعماق من الشفافية والطهارة وحب مساعدة الغير بشتى الطرق. ثم تصبح الحياة متغلغلة فيك بما هو صادق ودقيق، أي إنك باستمرار لست نفسك فحسب، بل الناس، الأطفال والشيوخ وعابرو السبيل حتى الذين يمدون أيديهم من إملاق وجوع وحاجة. الزهد يجعلك ترى هؤلاء بعين صادقة وأصيلة ومعطاء وهذا الزهد يدلنا على أشياء كثيرة، كذلك في التعبير عن النفس وفرض الذات. من أجمل الكتب التي قرأتها في حياتي، كتاب أعمدة الحكمة السبعة، الذي كتبه لورنس العرب، حسبما مالقبته القبائل العربية أثناء الثورة العربية الكبرى، لكن بالمعنى السياسي كان جاسوساً للغرب وللحلفاء ولبريطانيا بالذات، حيث كان هؤلاء جميعاً يسعون لتفكيك الامبراطورية العثمانية من الداخل، حيث وجدوا عند العرب الأرض الخصبة لتنفيذ ذلك ونجحوا على أكتاف هذا الضابط الأشقر، الذي كان بشخصيتين، واحدة لتنفيذ مآرب بلده، وأخرى لهذا الانعتاق النفسي من العالم الخارجي، زاهد به وباحث عن حب أصيل وحقيقي فلم يجده إلا عند البدو في الصحراء العربية الشاسعة. هذا الكتاب هو أهم الكتب التي عالجت هذا الانشراخ. في القلب الإنساني عموماً، فيه نرى رغبة لورنس في نظام الزهد الديني واضحة كل الوضوح وهو في بحثه المضني، عن تاريخ الجزيرة العربية، وجد فيها أن العرب قالت له: إن هنالك أربعين ألف نبي، ولدوا في الأماكن المكتظة بالناس، إلا أن حنيناً عميقاً غامضاً دفع بهم إلى الصحراء فعاشوا زمناً طويلاً جداً متأملين محرومي الأجساد، في زهد عميق بكل شيء، ثم عادوا برسالة متخيلة واضحة كل الوضوح ليبشروا بها بين رفاقهم القدامى.. هي تلك الأديان الثلاثة التي يؤمن بها العالم كله، ثم صارت حياة كل واحد منهم، متفقة مع تفاصيل حياة الآخر، قانوناً لحياة كل واحد من الآلاف الباقية من أولئك الذين خانهم الحظ ففشلوا، أولئك الذين يجدر بنا أن لانعتبر دعاءهم أقل صدقاً، أولئك الذين لم يكوم الزمن ولاالخيبة أرواحاً جادة جافة مجدبة لتحترق من أجلهم، ولم يستطع مفكرو المدن أن يقاوموا إغراء الصحراء. وليس ذلك لأنهم آمنوا وإنما أيضاً لأنهم استطاعوا في تلك الوحدة التي وجدوها هناك أن يسمعوا سماعاً أكيداً، الكلمة الحية التي جاءت من الله لتدلهم على الطريق، إن رد الفعل الذي شعروا به ضد المادة والكفر قادهم إلى التبشير بالزهد والحرمان والتخلي عن كل شيء بالفاقة. ويتضح لنا أن التعاطف مع هؤلاء النخبة أشد الوضوح بكل ما هو بشري، إن بدوي الصحراء الذي يولد وينمو فيها، قد احتضن هذا العراء بكل روحه، هذا العراء الذي لا يحتمله حتى المتطوعون أنفسهم. أما السبب في ذلك فمدرك أكثر منه واضحاً، ذلك أنه يجد نفسه في الصحراء حرا،ً لاشك في ذلك. إن هذه العقيدة الصحراوية مستحيلة في المدن وإنها في وقت واحد أشد غرابة واستجابة للحواس من أن يؤمن بها كائن من كان. قواعد هذا الدين الذي ظهر في وقت كانت الدنيا كلها بحاجة إليه بعد أن ساد الفساد الحياة البشرية كلها، هؤلاء الرجال الشجعان الذين قامت على أكتافهم هذه الرسالة العظيمة، كانوا فيها نجوماً سطعت في الجزيرة العربية ثم في العالم كله. لقد كانوا كالماء تغيراً وكما ستكون الغلبة للماء فإنها قد تكون لهم و كثيراًَ ما انطلقوا يرتطمون بساحل الوجود الجسدي منذ فجر الحياة وبموجات متتابعة وقد تحطمت كل موجة من موجاتهم على ذلك الساحل كما هي الحال مع أمواج البحر مؤثرة تأثيراً بسيطاً في صخوره التي راحت تتهاوى، على أنه سيأتي يوم بعد عصور طويلة، حين ينطلقون لايمنعهم شيء إلى ذلك المكان حيث كان العالم المادي موجوداً يوماً، إذ ذاك ستصبح كلمة الله هي العليا. لقد رفعت موجة واحدة من هذه الأمواج «لاآخر موجة» وأطلقتها أمام أنفاس فكرة ما، حتى بلغت ذروتها. في الحروب يموت البشر كالحيوانات لا كالبشر بل هنالك تقاطع بين الانسان والحيوان.. كيف يخطر ببال البعض مثلاً أن تكون في يده بندقية فيطلق الرصاص عشوائياً ليقتل من يقتل من أبرياء. لم يرحم حتى في حياته؟ رغم أن لورانس كان يقود حرباً، ولكنه كان دائماً ضد العنف والدماء، فالحرب مبرقعة بما يشبه اللذة السادية وهي تقع وفي ظن البعض أنها بحث عن الحقيقة، لكن عند البدو ظهرت جلياً في انتصاراتهم قوة العقيدة الدينية إلى حد أن كل شيء أصبح لديهم واضحاً. العقيدة التي ظهرت والتي دعت إلى التقشف والزهد كان هدف الحياة فيها غلبة الروح على المادة، إن العرب يملكون بساطة الأضواء العتيقة، هنا يقول لورانس: إذا كانوا بلا عقيدة، فسهل أخذهم إلى أركان الأرض الأربعة رغم أنهم يعلمون أنك لست تأخذهم إلى الجنة، وذلك بإرادتهم ثروات الأرض وملاذها، ولكنهم ماكادوا يرون في الطريق نبياً يحمل فكرة ما، لايملك بيتاً ينام فيه ولاطعاماً إلا ما يقدمه إليه الكرام والطيور، حتى يتركوا كل شيء، كل ثرواتهم ومالهم من أجل وحيه. إن مايلوح بصورة واضحة جداً أن لورانس لم يكن يعتبر نفسه جندياً، لقد رفع الموجة كما لوكان قديساً يدعو إلى فكرة ما أما قوته فهي قوة الانسان الذي يمكن أن تتملكه فكرة ما، ليقوم بإيصالها إلى الآخرين، إنه يعيد دائماً قوله: إن حرب العربي كانت دائماً حرب تبشير لاحرباً من أجل الحرب، أما الفترات التي عانى منها الشقاء والخذلان، فإنها راجعة إلى حقيقة بسيطة هي أنه لايستطيع أن يؤمن بالفكرة التي يدعو إليها مالم تكن مقنعة. وعلى الرغم من هذا الاعتقاد، فإن روح القيادة والتبشير أوحت إليه بما كان يحتاج إلى التعبير عنه، إنه يعترف في مكان آخر قائلاً: كان كل ما طمحت إليه طيلة حياتي هو أن تكون لي القوة على التعبير النفسي على شكل خيالي. وتهبه حرب الثورة العربية إدراكاً لنفسه، ففيها أتيح له أن يرى ماهو ليس بالتافه واللا بطولي، أما قوته على التحليل النفسي فهي جد عميقة، إنه لايستطيع أن يرى نفسه وعقله ككل إلا أنه يستطيع أن يؤلف صورة مكونة، مختلفة الأجزاء ، أما أهم ميزاته فهي عدم استطاعته أن يتوقف عن التفكير، فالفكر يسجنه، وإنه شقاء لانهاية له لأنه يعرف معنى الحرية. ويقول مخاطباً الملك فيصل عندما طلبت منه أن يكون مستشاراً له: قلت إنني أكره المسؤولية وانني في حياتي كلها كنت أرى السعادة في الأشياء أكثر مما أراها في الأشخاص، وفي الأفكار أكثر مما في الأشياء. ويقول: أمامي سلسلة مسؤوليات تثير اشمئزازي لقد شعرت بالضعة أمام إجباري على المسؤوليات لأنها تأخذ مني حريتي، ثم يقول: نحن غريبو هذا العصر المعقد، خسارة أن يصبح الإنسان مثل أنبوب تتسرب منه الحياة، إن العالم بالنسبة لي مكان لالون له بدرجة لاتصدق، لاشيء فيه من الإحساس بالرؤى أو المتذوقات التي تستطيع أن تحول انتباه البشر إلى خواء. الإرادة مطلقة إلا أنها لاتستطيع ممارسة حريتها إلا بالعزلة النفسية بالنفي النفسي ،لكن للأسف نحن مضطرون أن نتواصل0 مع البشر الأبرياء والمجرمين معاً، هنا سوء العاقبة المخيفة، إماً أن تعتزل نهائياً أو أن تصبح مثل بقية البشر خيرهم وشرهم فهذا شر لا بد منه، ويختم: الحقيقة أنني لم أحب هذه نفسي التي أستطيع أن أراها واسميها غير أنه لم تكن لديه فكرة ما عن كيفية اكتشاف النفس التي لم يكرهها، النفس التي أدركها يوماً حين، «بدأنا في الفجر المتألق الذي يوقظ الحواس مع الشمس،في حين يظل العقل نائماً». |
|