|
معاً على الطريق ولكان لعبق البهارات والمكسرات وللشموع والقيشاني أن تهمس في أذنك على مدار اللحظة.. انتبه.. أنت في بزورية دمشق أو في حميديتها أو سوقها الطويل! لكنك, لست في مدحت باشا دمشق, بل في محمود باشا استنبول, حيث التكايا والمرايا والأواني, وحيث عبق الطيب والزعفران ينتشر في تلك الدروب أبداً, يحملك إلى دمشق قبل أن تكمل رجلاك خطوة على الدرب, وكما في دمشق كذلك في استنبول, تستطيع أن تجادل الباعة وأن تخفض السعر إلى نصفه, خاصة إذا عرفوا أنك قادم من شام شريف! معظم استنبول خارج جدران محمود باشا تنتمي إلى العصر الراهن , حيث تقنيات الضوء والكومبيوتر والإعلام, والأدراج الكهربائية والمجمعات والماركات التجارية الكبرى وعبق البارفام والحسان العاملات وقارورة الماء المعبأ, تنتمي إلى الحداثة بأبسط تعبيراتها في حياة الناس, وحيث لم تدر استنبول الظهر إلى محمود باشا أو السلطان أحمد أو آية صوفيا أو غيرها, بل أحسنت إعادة إنتاجها وتحويلها إلى واحد من أهم مصادر الدخل والسياحة, ولعلها نجحت ليس في التوفيق بين فخار التراث وكريستال العصر فحسب, بل في تخديم متطلبات العصر بكنوز التراث, وليبدو التاريخ مستمراً دون انقطاع أو فجوة. خرجت استنبول من دروب محمود باشا الضيقة المرصوفة دون أن تخرج من ذاتها ودون أن يغادرها عبق الزعفران , استبدلت العباءة والرمح والحصان بربطة العنق والكومبيوتر والسيارة, لكن أوار الحنين إلى أريج الشرق ظل حاراً في صدرها لم تأنف منه ولم تتمرد عليه.. أخذته معها وقدمت نفسها إلى العصر مندوبة مدن الشرق المستيقظ للتو أمام المستقبل. ليست البقلاوة «الباكلافا» فحسب صناعة للتداول والتصدير في استنبول, بل الإعلام أيضا والثقافة والكتاب.. حين يعجز الزائر إليها في العثور على ورقة وقلم في مؤسسة إعلامية كبرى تملأ الشاشات وتقنيات المعلومة والعيون الحور أروقتها, فيضطر إلى «اللابتوب» كما إلى الياقة المنشاة وربطة العنق في مطعم عثماني عتيق على ضفاف البوسفور؟ نريد للتاريخ أن يستمر في دمشق دون انقطاع أو فجوة وهو يفعل ذلك اليوم وصلاً وتوصيلاً كما لو أنه الإعجاز, ونريد أن تقبع أرواحنا بين أوابد الألفيات الست أو السبع المتوالية المقيمة بين ظهرانينا, ولكن, نريد أيضاً أن تواصل دمشق مد الرأس والأطراف إلى المستقبل, أن تحتكم على العصر والحداثة كما احتكمت على التاريخ والأوابد!! |
|