تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار.. عندما مَنعتُ حرق جثة ابنتي!

آراء
الخميس 26-1-2012
ياسين رفاعية

أجمل ما يسعد الكاتب هو تعاطف الناس معه عندما كتبت قبل فترة مقالتي مشيت حافياً في شارع الحمراء.. تلقيت هواتف كثيرة ورسائل من ناس لا أعرفهم، معظمهم من النساء، المرأة أكثر تعاطفاً من الرجل..

المرأة تبكي إذا رأت مشهداً في السينما والتلفزيون محزناً... عاطفتها جياشة تعبر عنها بالدموع.. الرجل يتماسك وإذا بكى يكون المشهد أقوى من أن يحتمله فيبكي..‏‏

المهم هذا التعاطف عادة يخفف عني ثقل المشكلة المأساوية التي تداهمني.‏‏

توفيت ابنتي لينا وهي في السابعة والعشرين من عمرها بسرطان الثدي ثم انتقل إلى عظامها فكبدها ولم يمهلها طويلاً فأغمضت عينيها إلى الأبد تلقيت الخبر في الساعة الرابعة صباحاً فانهرت وكدت ألحق بها، لكنني تماسكت ماتت في لندن وأنا في بيروت.. وقعت في حيرة فيوم تلقيت الخبر كان يوم سبت.. لم أستطع السفر إلا صباح الثلاثاء وكان ابني قد أعد العدة لدفنها في اليوم نفسه عندما وصلت إلى لندن كانت الساعة الثانية عشرة.. استقبلني ابني باكياً.. ثم قال سنذهب إلى المستشفى لإلقاء نظرة الوداع عليها.. لم نجد الجثة في المستشفى وقالت لنا الموظفة لقد أخذها زوجها فأسرعنا إلى بيت الزوج.. إذ بنا بخال ابنتي أي شقيق زوجتي هناك يزفر غضباً.. قلت ماذا بك؟ قال اصطدمت بزوج لينا، فقد جئت لتعزيته فوجدت عنده أشخاصاً يهتمون بالموتى وكان يتفاهم معهم على حرق الجثة عوض دفنها على طريقتنا فلم أسمح له... وكدنا نتشاجر فطردني من البيت.. قلت لابني: حاول أن تدق عليه الباب وأنا واقف بعيداً وقد تبللت بالمطر حتى ملابسي الداخلية، فلم يفتح لنا الباب، ومر مصادفة صديق لزوج ابنتي فسأله خالها: هل تعرف أين وضع جون (زوج لينا) الجثة..؟‏‏

فقال له: في دار البلدية.. في الغرفة المبردة هناك.. وأشار إلى دار البلدية التي كانت قريبة من بيت جون وابنتي.. أسرعنا إلى دار البلدية فإذا بالسكرتيرة تتحدث بالتلفون.. وعادة الإنكليز إن كان الآخر يتحدث بالتلفون لن تستطيع أن تقاطعه حتى ينتهي.‏‏

ظلت السكرتيرة تتحدث مع صديقتها عن عشيقها الذي هجرها دون أن تهتم بنا إطلاقاً وعندما انتهت التفتت نحونا وسألتنا فقال لها ابني وهو يشير نحوي: إنه والد الفقيدة ويريد أن يودعها . نظرت نحوي وسألتني مباشرة: هل أنت والد الميتة؟ قلت: نعم.. قالت: لا تستطيع أن تراها حتى يسمح لك زوجها قلت: لكن أنا أبوها أجابت بخفة غير مهم.. المسؤول عنها زوجها.. هو الذي يسمح لك بوداعها.. وتذكرت هنا كم عارضت زواجها من انكليزي لكنها كانت تحبه وهو مهندس بالقوات المسلحة الانكليزية حاولنا المستحيل.. لكنها أصرت على الزواج منه فامتثلنا للواقع..‏‏

كنت ارتجف من البرد ومن هذا الموقف الذي لا تسمح لي فيه موظفة إنكليزية أن ألقي نظرة الوداع على ابنتي.. بل هددتنا بطلب البوليس إذا لم نتوقف عن مضايقتها.. اقترحت على ابني الذي اصطحب أحد أصدقائه معه وعلى خالها أن يعاودوا الذهاب إلى جون لعله يأتي معهم وظللت لصق باب الغرفة التي تسجى بداخلها ابنتي.. لكن بعد دقائق سمعت صراخاً في الشارع خرجت فإذا بزوج ابنتي ومعه ثلاثة من رفاقه يهجمون على خال المتوفاة.. ولكن ما إن رآني حتى همد مثل بركان.. واقترب مني ليضع رأسه على كتفي ويبكي.. ثم أمسك بيدي وعدنا إلى دار البلدية ليسمح لي بإلقاء نظرة أخيرة على الراحلة.‏‏

فتحت لنا الموظفة الباب ويا للمشهد لم أستطع التقدم خطوة واحدة انهرت وسقطت على الأرض ساعدوني فإذا ابنتي الجميلة مسجاة على ظهرها ويداها على صدرها صلعاء لا شعر في رأسها لا جفون في عينيها، مغمضة كأنها نائمة ومرتاحة من عناء ذلك المرض الخبيث والرهيب الذي أكل شبابها بأسابيع بعد وفاة أمها الشاعرة أمل جراح بسنة واحدة، عانقتها طويلاً.. قبلتها من جبينها ووجنتيها وأنا أبكي مالم أبك في حياتي قط. رفعوني عن الجثة بصعوبة وخرجنا... وكان هذا آخر لقاء مع ابنتي الوحيدة.‏‏

وفي البيت سألت جون عن مغزى إحراق الجثة قال: هذا ما ينصحوننا به.. وقد بدأ عشرات الألوف من الناس في الغرب يفضلون حرق الجثة من مواراتها في قبر.. قلت له: لكن نحن من تقاليدنا وديننا أن ندفن الجثة في قبر... لا أن تحرق فراح يجادلني أن الحرق أفضل وأنظف.. وأن المسؤول سيجلب لنا بعد حرقها زجاجة فيها رماد الجثة.. وكلما تذكرناها نرى رمادها أمام عيوننا أفضل من الذهاب لزيارتها في المقبرة.. كما أنه صار من الصعب الحصول على قبر.. ولمعلوماتك نحن نستأجر القبر ولا نشتريه مثل بلادكم هذه قوانين البلد فالقبور ملك للدولة استغربت هذا المنطق.. واستغربت أن أكون في بلد حضاري مثل إنكلترا ولا يقيمون حرمة للميت فرحت أحاور جون بلطف أنه إن كان يحب لينا فيجب أن يرضخ لمشيئتها وهي أوصت أن توارى في قبر، كان مصراً على حرق الجثة.. ثم تعلل أنه لا يحمل الآن مالاً يكفي لاستئجار القبر والدفن على الطريقة الإسلامية.. قلت له: دعنا نتساعد بذلك.. وأنا شخصياً أرجوك أن توافق على دفنها كما أوصت... فبعد مجادلة عقيمة رضخ.. واتفقنا على إقامة جنازة لائقة بشابة لم تشبع من الحياة ولم يتركها الله لتربية أطفالها الثلاثة بل أخذها منا.‏‏

وكان ظهر يوم الخميس صلينا عليها في المسجد الكبير.. وصلى معنا جون الذي لم يتزوج من ابنتي إلا بعد أن أشهر إسلامه.‏‏

وعندما كانوا يهيلون التراب على النعش الذي اختبأت بداخله ابنتي بكيت كالأطفال وبصوت عال بل كدت أنهار فوق قبرها.. ولم أنسَ أن أملأ كيساً صغيراً من الورق تراباً من قبر ابنتي مزجته فيما بعد بتراب قبر زوجتي في بيروت حيث أقيم.. حتى إذا ما زرت قبر زوجتي وأنا أزوره منذ وفاتها هي الأخرى يومياً أكون أيضاً كأنني زرت قبر ابنتي في لندن في يوم واحد.‏‏

أصبحت حياتي من بعدهما هباء وإن كان لي من عزاء ما فهو ابني الوحيد الذي أوصيته أن يزور قبر اخته حيث يقيم هو في لندن.. أما أحفادي الصغار مع أبيهم جون فيحادثونني من لندن مرتين في الأسبوع.. فأجمع أصواتهم في صدري بصوت واحد كأنه صوت ابنتي.‏‏

ما هذه الحياة؟‏‏

لماذا نولد ونعيش ثم نموت؟ بل نفقد أحبابنا ونحن مازلنا أحياء.. من يفسر لي ذلك؟ من يرفع هذا الثقل عن صدري وقلبي غير هؤلاء الذين أتواصل معهم عقب كل مقال في الجريدة فالناس للناس.. حتى لو لم يكونوا يعرفون بعضهم بعضاً..‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية