تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هكذا تغتال أميركا قواعد القانون الدولي !

شؤون سياسية
الخميس 10/8/2006م
الدكتور إحسان هندي

يجمع فقهاء القانون الدولي المحايدون على أن القانون الدولي يعيش منذ ربع قرن حتى اليوم أخطر أزماته حيث لم تعد مبادىء هذا القانون

التي نادى بها (غروشيوس) و (بوفندورف) و(جينتلي) والتي تم الاتفاق عليها رسماًا في نصوص مؤتمر (وستفاليا) عام .1648 أكثر من انعكاس لعلاقات القوى السائدة في المجتمع الدولي!‏

وهكذا لم يعد من قبيل المبالغة القول إن القانون الدولي العام خسر منذ زوال الاتحاد السوفييتي عام 1990 وحتى اليوم- أي خلال 16 عاما- بمقدار ما كسب من قواعد ومصداقية خلال القرن العشرين بكامله.‏

ولئلا يظل كلامنا مجرد رأي شخصي معلق في الهواء, سنذكر فيما يلي خمسة مبادىء دولية تعتبر أهم القواعد التي قام عليها القانون الدولي العام, ونرى كيف اغتالت الولايات المتحدة الأميركية, والدول التي تلف لفها وخاصة اسرائيل, هذه المبادىء وأحلتها تقريباً من مفهومها.‏

وهذه المبادىء هي: مبدأ السيادة, مبدأ عدم التدخل, مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها, حق الشعوب في مقاومة الاستعمار والاحتلال, حق كل شعب في استثمار ثرواته الطبيعية, حقوق الإنسان الجماعية, التعاون السلمي بين الدول.‏

أولاً: مبدأ السيادة: ومعنى السيادة هو أن تملك كل دولة حق تسيير شؤونها الخارجية والداخلية والشكل الذي يحقق مصالحها الوطنية والقومية, ولا يحدها في ذلك إلا مبادىء القانون الدولي والشرعية الدولية في علاقاتها مع الخارج, وجملة الحقوق المعترف بها للمواطن (حقوق الإنسان) في علاقاتها مع أبناء شعبها والمواطنين الأجانب المقيمين فوق أراضيها.‏

واحترام سيادة كل دولة صغيرة كانت أم كبيرة, هو حق لها وواجب على غيرها, وهذا ما يمنع عدوان دولة على أخرى, لأن العدوان هو أخطر انتهاك يقع على السيادة, بالرغم من أن الجمعية لهىئة الأمم المتحدة وهي رأس الهرم في مؤسسات الشرعية الدولية قد أصدرت قراراً بتعريف العدوان عام 1974 وبينت أهم أعمال العدوان فيه مثل: الغزو العسكري, والاحتلال الحربي, فإن حكومة الولايات المتحدة الأميركية قامت بغزو عدة دول أميركية مثل (هاييتي, غرانادا, بنما, الدومينيكان, كوبا..) وغير أميركية (لبنان, الصومال, أفغانستان, العراق...) وإذا عدنا إلى الأعراف والاتفاقيات الدولية المعاصرة فإننا نجدها قد منعت الحروب العدوانية والحروب الهجومية منذ عام ,1928 وتأكد هذا المنع عند انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي محاكمات نورمبرغ, بحيث يمكن القول إن القانون الدولي لم يعد يسبغ المشروعية الدولية إلا على نوعين من الحروب وهما: حروب الدفاع المشروع عن النفس من جهة, والحروب التي تجرى استناداً إلى قرار صادر عن مجلس الأمن من جهة ثانية.‏

وفي الوقت الذي ينكر أغلب فقهاء القانون الدولي المشروعية حتى على الحروب الوقائية PREVENTIVE WARS , أي مهاجمة بلد لبلد آخر قبل أن يقوم هذا البلد الآخر بمهاجمته, فإن الإدارة الأميركية في عهد الرئىس جورج دبليو بوش لم تكتف بشرعنة الحروب الوقائية وإنما أضافت إلى ذلك (الحروب الاستباقية PREMEPTIVE WARS ويتجلى هذا النوع من الحروب بادعاء دولة ما بأن دولة أخرى تشكل عليها خطراً, أو يمكن أن تشكل عليها خطراً في المستقبل, فتقوم بغزوها ومهاجمتها الآن حتى لا تتعرض لمثل هذا الخطر في المستقبل, وقد قامت الإدارة الأميركية الحالية بهذا النوع من الغزو في أفغانستان ثم في العراق. ولا نعلم بأي حق تقوم دولة بمهاجمة دولة أخرى تبعد عنها آلاف الأميال بحجة أنها يمكن أن تشكل عليها خطراً في المستقبل.‏

ثانياً: حق منع التدخل: إن مبدأ سيادة الدولة ووجوب تساوي جميع الدول كبيرها وصغيرها في ممارسة سيادتها, ينجم عنه مبدأ أساسي آخر وهو عدم جواز تدخل دولة ما في الشؤون الداخلية لدولة أخرى, وهذا المبدأ (أي عدم التدخل NON-iNTERVENTION نصت عليه صراحة جملة اتفاقيات دولية ثنائية وجماعية, كما نص عليه قرار صادر عن الجمعية العامة لهىئة الأمم المتحدة حديثاً, وهو القرار رقم 2625 (25) تاريخ 24- 10-1970 والصادر تحت عنوان (مبادىء القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة).‏

حيث تقول إحدى فقرات هذا القرار حرفياً: (الالتزام القاضي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة أخرى هو شرط أساسي لضمان عيش الأمم معاً في سلام).‏

ومن المفارقات الطريفة أن نشير إلى أن أول من نادى بحق منع التدخل, واعتبره التزاماً دولياً, على عاتق الدول الأخرى, هو (جيمس مونرو). وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية سنة ,1823 حين أطلق شعاره المعروف (أميركا للأميركيين). وذلك لكي يمنع على الدول الأوروبية الوقوف إلى جانب اسبانيا والبرتغال, اللتين كانتا تستعمران أغلب دول أميركا اللاتينية في أوائل القرن التاسع عشر.‏

وإننا نستغرب تماماً, كيف أباحت الحكومة الأميركية, لنفسها قبل حوالى 180 عاماً, أن تطلق شعار (أميركا للأميركيين) وأن تسهر على تطبيق هذا الشعار فعلاً, ثم تأبى اليوم على غيرها المناداة بشعارات مماثلة من نوع, (أفريقيا للأفريقيين,آسيا للآسيويين, أو (بلاد العرب للعرب).‏

إن الأمر وصل, مع إدارة بوش الحالية, إلى أقصى درجة من الفظاظة حين تدخلت في افغانستان بحجة تخليص هذا البلد من جماعة مستبدة (جماعة الطالبان) وفي العراق بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل,ثم تبين أن هذه الأسلحة لم تكن موجودة إلا في رؤوس دهاقنه السياسة الأميركية من المحافظين الجدد!‏

- والمؤسف في الأمر أن الإدارة الأميركية الحالية تمكنت من فرض رؤيتها هذه على هيئة الأمم المتحدة, وهكذا رأينا مجلس الأمن ينصاع للإملاءات الأميركية عند التصويت على مشاريع القرارات, كما في حالة القرارين 1559 و 1595 الخاصين بالعلاقات السورية اللبنانية أو يعطي المشروعية لاحقاً لعملية أميركية غير مشروعة في الأصل, كما جرى بعد احتلال العراق, في آواخر شهر آذار .2003‏

وقد بلغ التدخل حداً لا يحتمل في القرار 1680 الصادر أخيراً عن مجلس الأمن, بإملاء أميركي فرنسي, والذي (يفرض) على الحكومتين السورية واللبنانية إقامة العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء, وترسيم الحدود بينهما, وخاصة في الأراضي التي هي محل تنازع.‏

ثالثاً - حق الشعوب في تقرير مصيرها: تمتعت الشعوب منذ أواسط القرن الثامن عشر باعتراف القانون الدولي لها بحق تقرير المصير, وقد وجد هذا المبدأ تطبيقه الفعلي باستقلال الولايات المتحدة الأميركية عن بريطانيا سنة ,1776 ثم باستقلال أغلب دول أميركا اللاتينية عن الدولتين اللتين كانتا تستعمرهما حتى بدايات القرن التاسع عشر, وهما اسبانيا والبرتغال.‏

والطريف في الأمر أن الرئيس الأميركي (وودرو ويلسون) ذكر مبدأ (حق تقرير المصير ضمن المبادىء الأربعة عشرة, التي وضعها عام 1917 لتنظيم عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى!‏

وبالرغم من أن الجمعية العامة لهىئة الأمم المتحدة قد اتخذت قرار مشرفاً بإنهاء الاستعمار منذ .1960 وبالرغم من أن مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها أصبح بمثابة (قاعدة آمرة) من قواعد القانون الدولي, فإن الولايات المتحدة لا تزال تكيل, عياناً بياناً, بمكيالين في هذا المجال, حيث نراها شجعت على استقلال دولة تيمور الشرقية عن وطنها الأم, لأن الأمر يتعلق بإرادة إضعاف دولة أندونيسيا كدولة إسلامية, بينما نجدها تجر دول حلف الأطلسي إلى حرب سافرة ضد دولة صربيا بحجة حماية شعب كوسوفو, والحقيقة أنها لم تقصد بتدخلها حماية الشعب, وإنما منعه من الانفصال عن صربيا والانضمام إلى ألبانيا لأن الولايات المتحدة ودول حلف الأطلسي لا تريد رؤية دولة إسلامية يزيد عدد سكانها عن عشرة ملايين في الاتحاد الأوروبي?‏

- وإذا أتينا إلى قضية حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإنشاء دولته المستقلة فإننا نلمس العجب العجاب: فبالرغم من أن هيئة الأمم المتحدة قد اعترفت للشعب العربي الفلسطيني, فترة السبعينيات من القرن العشرين, بجملة من (الحقوق الثابتة DROITS IMMUABLES وغير القابلة للتصرف INALIENABLES) فإن حكومة الولايات المتحدة الأميركية, لم تحاول بتاتاً مساعدة هذا الشعب على الوصول إلى حقه, بل إن اعترافها له بجملة الحقوق اللازمة لحياته وتقرير مصيره يقل مع تقدم الأيام وقد تفضل الرئيس بوش في عام 2002 بالاعترف للشعب العربي الفلسطيني بحقه في إنشاء دولة له قابلة للحياة إلى جانب دولة اسرائىل وذلك حسب خطة تنفذ على عدة مراحل, تحت اسم (خارطة الطريق) على أن ترى الدولة الفلسطينية النور خلال خمس سنوات من طرح الخطة, أي في عام ,2007 ولكن ها هو عام 2006 يكاد أن ينتهي دون البدء بالتنفيذ, ويظهر أن الإدارة الأميركية الحالية قد أضاعت (البوصلة) فضلت الطريق إلى (خارطة الطريق)?‏

ومن المؤسف والمحزن أن نقرر هنا أن هذا الشعب الفلسطيني يناضل, منذ أكثر من ثمانية عقود لينال حقه في تقرير مصيره ويكافح منذ عام 1948 على جميع الأصعدة, للتخلص من نير الاحتلال الإسرائىلي, وهذه أطول مدة- بحسب معلوماتنا الشخصية المتواضعة- قضاها شعب في سبيل الحصول على استقلاله وحقوقه الوطنية خلال القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين!‏

* باحث في القانون الدولي والتاريخ‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية