|
إضاءات من المؤكد أن الفن التشكيلي قد أدى دوراً في توثيق صور الأشخاص، وتسجيل الأحداث، قبل أن يعفيه اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي من دوره هذا.وربما لعب المسرح - إلى حد ما، وفي زمن ما - دوراً مشابهاً.لكن الإبداع تخلى منذ أمد بعيد عن كونه نسخة عن الواقع، لينطلق في رحاب الابتكار، والبلاغة البصرية والسمعية. و بلغ إيمان بعض المعنيين بالشأن الفني بهذا التوجه، أن رفضوا أي شكل للفن الواقعي (في التشكيل والمسرح بشكل خاص)، فيما حرصت السينما على الاستفادة من خصوصياتها، وإمكانياتها التقنية الباهرة، لصنع أعمال تجسد حدثاً تاريخياً، أو معاصراً، بلغتها الدائمة التجدد والابتكار.فأرجعت إلى الحياة أحداثاً تاريخية، أو أعادت تقديمها بما يخدم فكرة أو غاية، وفي كل الأحوال صنعت حدثاً سينمائياً قد يفوق الحدث الأصلي تأثيراً.لكن الأمر لم يخلُ أيضاً من أشرطة سينمائية كثيرة، اتكأت على عنوان الحدث دون معرفة السبيل لجعل العمل الفني قادراً على إظهار ما هو أساسي فيه. والأسوأ من ذلك أفلام صغّرت من شأن الحدث، في حين اعتقد صانعوها أنهم أضافوا إليه ما يزيده أهمية..وللسينما العربية، ومعها الدراما التلفزيونية، باع طويل في هذا المجال.. مع نهاية حرب حزيران 1967 خاضت القوات السورية والمصرية حرباً قاسية لمدة ثلاث سنوات مع العدو الإسرائيلي عرفت بحرب الاستنزاف، كانت الغاية الأساسية منها إبقاء المعركة مع العدو مفتوحة للحول دون الاستسلام للإحباط والوهن، والشعور بالعجز، والحفاظ على روح التحدي عند المقاتلين العرب، وتطوير كفاءتهم القتالية وخبراتهم الميدانية. وفي هذا السياق شهدت الجبهتان السورية والمصرية معارك بطولية، بالمعنى الدقيق للكلمة، تجلت فيها شجاعة المقاتلين وكفاءتهم وقدرتهم على المواجهة. ومن بين هذه المعارك معركة خارقة قام خلالها الغواصون المصريون بإغراق ثلاث قطع بحرية معادية في مرفأ«إيلات» بواسطة عبوات ناسفة خاصة ألصقوها بها تحت الماء، وفجروها عن بعد.. أدهشت تلك العملية العالم، وخلقت صدمة قاسية للعدو، وأشاعت حالة واسعة من الفخر بين العرب، ما أغرى بتقديمها عبر فيلم سينمائي. لكن صنّاع الفيلم انساقوا وراء المفاهيم السينمائية التجارية السائدة، فأضافوا إلى الحدث كثيراً من التفاصيل (المثيرة)، وكانت النتيجة ليس فقدان الفيلم للكثير من مصداقيته، وإقناعه، فحسب، وإنما أيضاً التضحية بواحدة من أهم الوقائع ذات الدلالة الكبيرة، فقط لإبراز نجومية الممثل الرئيسي لا أكثر.ففي واحد من أسوأ مشاهد الفيلم، وبينما مركب الغواصين يتجه نحو هدفه، يلحظ قائد المجموعة (أي الممثل النجم)أن أحد الغواصين الذين سينفذون العملية يرتجف من الخوف!! وبما أن المجموعة قد صارت في عرض البحر، ولم يعد ممكناً استبدال الغواص (الجبان)-علماً أنه قد تطوع بملء إرادته للمشاركة في العملية، حتى كما يُظهر الفيلم ذاته- وجه له قائد المجموعة المتقدم في العمر شتائم لاذعة. ثم قرر أن ينحيه عن العملية ويحل محله، فانتزع منه بذلة الغوص، ونفذ هو (النجم) العملية بنجاح!! المأساة في هذه الرؤية الاستهلاكية لعمل بطولي كهذا، أن الواقعة الحقيقية لم تشهد أي موقف تردد من أي من المقاتلين المتطوعين، بل إن أحدهم قد تعرقلت مهمته تحت الماء بسبب وقت إضافي استغرقته عملية فتح ثغرة في شبكات الحماية التي نصبها العدو لحماية سفنه، فلم يقبل التراجع رغم نفاذ الأوكسجين منه، وأصر على إتمام مهمته، وهو ما قام به فعلاً. لكن الثمن كان باهظاً، فقد استشهد اختناقاً.. هو فقط واحد من الأمثلة التي تظهر كيف أن الفن الضعيف يسيء إلى الموضوع الذي يتناوله..مهما كان هذا الموضوع نبيلاً.. وعودة لسؤال البداية: - ماذا إن كان الحدث الواقعي أكثر تأثيراً من العمل الفني المستمد www.facebook.com/saad.alkassem ">منه؟.. www.facebook.com/saad.alkassem |
|