تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الصراع في مستوى مابعد الأفق ومابعد الأمر الواقع

شؤون سياسية
الأربعاء 19-5-2010م
بقلم: د. أحمد الحاج علي

يتداخل المفهومان، وفي مناطق متعددة لحركتهما ندرك المدى الذي وصلت إليه مجمل الاستراتيجيات الغربية والصهيونية في النظرة للعرب، ليس من حيث هم موقع الصراع الدائر فحسب بل باعتبار العرب مادة الصراع نفسه،

والمفهوم الأول هو أن العرب في الأصل لابد أن يكونوا موضوعاً، أعني مجرد موضوع تقوم ملامحه على الاضطراب والانفعال معاً، ويمتلك هذا الموضوع خصائص جذب الصراعات وإدارة الحوارات الفكرية والتاريخية حول العرب أنفسهم، ويسلب عادة من منهج (العرب الموضوع) تلك القواعد والقيم التي تشترك بها كل حضارات العالم، وهذا منحى تشتغل عليه الصهيونية منذ نشأتها والهدف واضح من ذلك وهو أن تأتي كل التطبيقات فيما بعد سهلة ومستساغة مع بعض التعديلات، فلا مشكلة في احتلال الأرض العربية، ولاقيمة لأي معايير أخلاقية تضبط إيقاع القتل والتدمير الذي مازالت القوى الغربية الصهيونية تمارسه في العرب حتى الآن، إن النداء التاريخي هو الذي يلح على ذلك، وبالمحصلة فإن التكوين السيكولوجي المنحرف عند الطرف الصهيوني باتجاه العرب لابد أن يلاقيه في منتصف الطريق قبول العرب ذاتهم لكل الممارسات الصهيونية التي تولدت أساساً في عمق الممارسات الغربية الاستعمارية التي لا تزال تنفث بقاياها ورماد حقدها على العرب بصيغ مختلفة وأساليب معاصرة، وأما المفهوم الثاني المعتمد في بناء الصراع وإدارته فهو يقوم على قاعدة أن الصراع نفسه لابد أن يكون بين أناس لا يموتون وأناس يموتون، ولكي تتكرس هذه الفكرة الخطرة, فإن العرب لديهم الحق في أن يموتوا وهم يتفرجون على أنفسهم، فالعزل ليس قائماً على منع العرب من استعادة حقوقهم واسترجاع أرضهم فحسب، بل إن العزل لابد أن يكون ما بين العرب والسلاح اللازم لخوض معارك الدفاع عن الذات، وعندها فالمعركة تدور بين مجموعة تمتلك السلاح وتكنولوجيا الحرب وعلم التفوق على الآخر، ومجموعة أخرى هي العرب، لا تمتلك من الحقوق سوى حق الموت في واقع العزلة المزدوجة، عن التاريخ وعن السلاح معاً، إن اجتماع المفهومين في مناطق التقاطع لتفاعلاتهما تدل على القرار الأهم كأن يتمثل في أن العرب هم ضحية النزعة الكولونيالية والعنصرية، وتدفقات المال والمشاريع الاستعمارية إلى المنطقة، ولايدعي أحد في الفكر الغربي السائد حتى الآن بأن العرب ليس لهم حق الاعتقاد بذاتهم، لكن ذلك مشروط وموجه بأن تكون هذه الحقيقة للعرب هي اعتبارية ليس أكثر، لهم حق الألم، وحق الانفعال، لهم حق البكاء على الاطلال، ولهم حق اجترار المأساة، ولكن ذلك لابد أن يكون محكوماً بخاصية الدوران على الذات وحولها بحيث يصبح الموقف مع امتداد الزمن العربي هو مجرد ركام، له حجم وكتلة، ولكنه ركام يلغي بعضه البعض الآخر، ويستثمر كمواقع إعاقة لأي نمو في الوعي كما في الموقف السياسي والاجتماعي والعلمي، هناك كاتب غربي هو آلان تورين أورد هذه الفكرة في كتابه (هل نستطيع العيش سوية) والفكرة في مضمونها العام تدور حول هذا المنطق الذي يؤكد بأن المطلوب هو استبعاد العرب من أن يكون جزءاً من العالم المعاصر، والاعتبارات في مثل هذه الفكرة تقوم على ثلاثية مترابطة ومجموعة في عناصر وإيقاع تفاعلها العام.‏

أما البند الأول في هذه الثلاثية فهو أن العرب لا يمتلكون الخصائص والبنى الفكرية والحضارية التي تؤهلهم للاندماج في حضارة العالم، لذا فهم جزء لابد أن يكون مستبعداً وأن يستمر مستبعداً، ما دام هذا الجزء لا يستوعب مقومات الانضباط في صفوف الطاعة التي تسيطر عليها الذات الامبراطورية الموحدة لكل من الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية.‏

والبند الثاني في المنظومة الثلاثية هو واقع في النظرة للعرب على أنهم غير مؤهلين لملكية ثرواتهم والانتفاع بأموالهم النفطية وغير النفطية وهم موقع بمستوى العبء على حركة العالم في مستوى تطوره وإنجازاته العلمية والثقافية ثم إن كل المظاهر التي يستمد منها العرب صيغاً من نزوعهم نحو إثبات الذات لا تعدو كونها مجرد تحسينات موروثة تستغرقها التقاليد والقيم المتوارثة وترفضها حضارة العالم المعاصر.‏

والبند الثالث يقوم على قاعدة احترازية من الغرب والصهيونية باتجاه العرب حيث لا يمكن الارتهان للحالة العربية الراهنة، برغم ما فيها من مواقع السكون وعوامل التراجع، وأنشطة السياسات التي سلمت بالأمر الواقع للعرب كبديل عن الواقعية ومنهجيتها في التعرف على الذات وعلى الآخر معاً.‏

وبعد ماذا يملك العرب في مواجهة ذلك، نعم يملكون، ولكن فقرات ما يملكون لا تقع في منطقة جوهر الصراع، وإنما في منطقة ما بعد الجوهر، أي يكاد الموقف العربي يتخصص في التكون والحركة في الهوامش وعلى الأطراف وفي الزمن اللاحق وليس في زمن الانجاز الحقيقي لمعايير الصراع وقواعده، ولعل ذلك هو الذي سهل حركة الانزلاق في الواقع السياسي العربي من مرحلة الجوهر والقضايا الأساس إلى مرحلة اللهاث حول السراب، عبر الاعتقاد بإمكانية التسويات والتوصيات التي يشملها عامة مفهوم العملية السلمية، وفي اللحظة المتكررة والمستحقة التي تندفع بها القوى الأخرى نحو تكريس المفاهيم واختلاق حقائق دائمة للسيطرة على العرب، وتدمير هويتهم، ونهب ثرواتهم، في هذه اللحظة يكون سير الصراع غير المتعادل هو في اتجاهين متعاكسين وليس اتجاهاً معاكساً واحداً، فالمشاريع الأجنبية تتوطد بل وتكتسب مناسيب ومساحات جديدة، والفعل العربي إن وجد يتجه نحو التجزئة والترهل والاغتراب عن الحقائق الكبرى، وعن ميادين معارك هذه الحقائق المتنوعة والمتكاملة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية