تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حصاد الورق

فضاءات ثقافية
الأحد 28-2-2010م
يمن سليمان عباس

لوركا: هذا هو حبي الأول

لدي في منزلي لوحة رؤيتها تسبب لي حسرة كبيرة، فهي لفتاة شقراء ونحيفة عاشت منذ زمن والآن واراها التراب، على وجهها ارتسمت ضحكة بسيطة وحزينة بحيث تبدو وكأنها ستبكي، يداها متشابكتان وأمام صدرها ثمة باقة من الزهور ستكون اليوم تراباً متناثراً..‏

اصفرت اللوحة كلها بفعل الزمن باستثناء وجه الطفلة الأبيض الذي زالت عنه الألوان.. ثوبها الفضفاض والفاخر كله مطرز بالضفائر السوداء، بجانبها طاولة صغيرة يحيط بها إطار وفوقها صليب وكتب كثيرة، لم أعلم أبداً من كانت تلك الطفلة الملائكية، وعندما سألت عن اسمها كانت أمي تقول إنها إحدى صديقات والدتي، وقد ماتت وهي في سن صغيرة جداً.‏

أُلحدت، ولكن ما اسمها؟! كانت أمي تجاوبني وهي تقوم بإيماءة غريبة دعيني وشأني، وهكذا في كل مرة يتم فيها إخراج الملابس من الصندوق الصفيح الذي كانت اللوحة بداخله، كنت أهرع لرؤية اللوحة وبعدها أشعر بذكراها ممتزجة مع تلك الرائحة الفريدة للأشياء المغلقة..‏

عندما كنت صغيراً تلك اللوحة كانت كابوسي في ليال كثيرة بلا نهاية.. تلك الليالي هي التي تتكشف فيها الأسرار الخفية وتمثل بداية مرحلة المراهقة.. عيون تلك المرأة لابد وأنها كانت كبيرة كالشموس وفمها كنز من العذوبة.. خلال الساعات التي تتركني أسرتي فيها بمفردي في المنزل كنت وبحذر شديد كما لو أنني سأرتكب جريمة كبيرة، أكسر قفل الخزانة بسلك وأقلب الخطابات والحرائر والتذكارات بحثاً عن اللوحة كنت أمضي ساعات وساعات أنظر إليها كما لو كنت أبله، وأتخيل الشابة وهي تتحدث معي وتحكي لي أغرب وأروع القصص التي لم يكن أحد ليعرف أن يقصها، كان خيالي الطفل يتدفق والفتاة كانت تتحدث معي، ثم أخبئ اللوحة لأنه كان يخيل إلي أنها تحرك عينيها وشعرت بالخوف من أنها ستسحرني.‏

وهكذا أحببتها بجنون وشغف دون أن أعرف من كانت تلك الشخصية النبيلة التي أحاطت بها هالة من الألم، وجعلت خالة لي، عزباء وحنونة كانت تقص لي أشياء عن الجنيات والأيدي السوداء المشعرة التي تحمل الأطفال لتغرقهم في البحر، تخبرني.. لماذا كانت تلك المرأة حزينة؟ كانت تحملني فوق ركبتيها وتؤرجحني بعذوبة وتشرح لي كيف أن تلك المرأة التي في اللوحة كان لها خطيب تركها وأنها ماتت من الحب والاستياء، وحدثتني عن جدتي صديقتها التي عزتها وواستها عندما حانت الساعة المروعة.. كل تلك القصة دخلت قلبي البسيط والحنون، وكانت تجعلني أتنهد من الأعماق على التي ماتت بائسة، هكذا كنت في علاقة وطيدة مع تلك اللوحة دون أن أفكر في شيء أكثر من ذلك.‏

وعندما حان لي اليوم الذي يأتي للطفل ويجعله يتغير ويشعر بأشياء جديدة تكشّف أكبر سر في الحياة أمام عيني ورؤيته أعيتني، بدا لي أن كل الرجال والنساء آثمون.‏

هذا جزء من السيرة الذاتية للشاعر الإسباني لوركا نشرت صفحات منها في أخبار للأدب المصري العدد 866.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية