|
كتب هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً بأقدام حافية وفي حقول مسامير، سال دمه في مواقع خطواته تحمل كل العواصف والأنواء، فكان لحمه« ملك البحر» ودمه ماؤه المالح، وصراع مع القروش كان صراع حياة، حتى كتب قصة الانتصار على الطبيعة القاسية إلى أن وصل إلى شط الأمان فأصبح من رواد البحر في الأدب العربي، حتى غدا أوسع الكتاب العرب انتشاراً وتجاوزت مؤلفاته الأربعين وقد تجاوز الثمانين حجة لكن يده لا تزال غضة تكتب وتبدع، وكل أدواتي حتى هذا الزمن أوراق وقلم. ومن جديده كتاب« الجسد بين اللذة والألم» الصادر عن الهيئة العامة السورية لهذا العام. الأديب والكاتب الكبير حنا مينة قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام: الأول في السياسة وأشياء أخرى بدأه بالكتابة عن سورية ودمشق التي يشعر أنه مربوط إليها بسلك خفي حتى إنه تمنى أن تنتقل دمشق إلى البحر أو ينقل البحر إلى دمشق التي تتعرض دائماً إلى المحن والتهديدات من قبل إسرائيل، وأمريكا لكنها تعرف كيف تغص دائماً أجنحة هذا التهديد وتقاوم بأعنف ما تكون المقاومة لكونها في المقدمة والطليعة، واليوم كما الأمس تدرك أن مشوارها مع الكفاح طويل، ولأن سورية في وضع صعب داخلياً وخارجياً فإن عليها أمام هذا الوضع أن تعرف أعداءها، وفي مقالة أخرى يوجه رسالة حق إلى القراء.. ويتحدث عن دمشق وموسكو والصداقة القديمة الجديدة والمتجددة على الدوام. حين يبكي البحر يبكي قلب الأديب الكبير، ويؤكد أننا لسنا في النائبات ممن يبكون، بل يفادون، إلا أن الفداء يتطلب عدته، وهذا الدرس علينا أن نتعلمه. وفي السياسة يكتب مينة عن خيبة الطغاة بوش في العراق وشارون السفاح في فلسطين بكل أسلحته، وفي أشياء أخرى يتحدث عن مكافحة السرطان ويعدها مهمة وطنية وإنسانية. وعن خالد بكداش المعلم الذي رحل ويوسف فيصل القائد الشيوعي عالي الكفاءة وينتقد الزمن الأعور والناس العور. ويعود للحديث عن اللاذقية وبحرها الذي يجري في شرايينه طارحاً سؤالاً لا جواب له عنده وهو: لماذا يسبقه قلبه دائماً إلى تلك المحافظة؟ وهو البحار القديم الذي لم يعد له فيها حبيب، لكن في اللاذقية بحر، وفي البحر يسعى إلى غسل أخطائه عسى أن يتوب الله عليه وهو على كل شيء قدير. وفي الكتاب يسطر الكاتب وصيته آملاً ألا يذاع خبر موته في أي وسيلة إعلامية مقروءة أو مسموعة أو مرئية،. فقد كان بسيطاً في حياته ويرغب أن يكون كذلك في مماته. في القسم الثاني من الكتاب ينتقل مينة للحديث عن سيرته الذاتية من حياته الطويلة متنقلاً من مهنة الحلاقة إلى الصحافة والكتابة التي يعتبرها مهنة حزينة، فالورقة البيضاء أفعى بيضاء، أو ما يكتبه الكاتب في الليل قد يمزقه في النهار. ويذكر الكاتب يوم سرقوا ذاكرته لا كليته، ويتحدث عن أصابع اليد والإبداع وحروفه المنذورة لدمه الذي نزف في مواقع خطواته على درب الشقاء الطويل، وكرهه للمقص والمشط وسمك القرش، والرسم بالكلمات المضيئة، وحب الكتب والأنباء، ويتطرق إلى رواية« الياطر» وجنون القراءة بها والصيد الأول والأخير في حياته، والرواية التي تربع عرشها تجربة وحواراً. ويختم بختام حكايته مع دمشق القديمة، دمشق الطريق المستقيم العريقة بالنسب المرجوة في الحسب، ستبقى كما العهد بها ثابتة في مبدئيها راسخة في ثوابتها، حانية حنو الأم على الإنسان، في وطنه العربي القديم، وفي ما هو أبعد مدى، وأنأى أنفاً، وأوسع في رمال البيد مجالاً. مؤكداً أن سورية غير معزولة ولن تكون معزولة. ويشدد الكاتب على ترتيب البيت أولاً وراهناً وعلى الكلمة الحرة التي لا مندوحة عنها لأننا من دون حرية الكلمة نفقد كل مقومات الديمقراطية المنشودة بإلحاح. ولا ينسى أن يتحدث عن الجسد بين اللذة والألم إذ يرى جوع البطن أخف وطأة من جوع الجسد، فهذا حين يعوي كذئب ساغب في متاهة الثلج، خليق بالخروج لأجله بحد السيف. كما يرى أنه بإمكاننا أن نغير العالم بالكلمة الحرة، بما هي صياغة وجدان المغيرين. لماذا لم تكتب عن دمشق؟ سؤال تكرر على الكاتب الكبير، الذي يحار دائماً كيف يشرح للسائلين وهل يقتنع أحد إذ قال: إنه يعرف جيداً شارع أبو رمانة، والمالكي إلا أن قلمه لا يؤاتي للكتابة عنهما، فهو منذور للبحر، للجبل للثلج للمناطق غير المكتشفة بعد، للعيش على حافة الخطر. لمواجهة الموت من الخطر ويتابع مينة معتذراً عن عدم كتابته عن دمشق مبيناً أنه لا يستطيع كتابة رواية عنها بالقول: آه يا دمشق يا مدينتي التي في مركز دائرتها سر التاريخ... يا مليكتي التي أضعت أمامها عرشها الجليل القدرة على النطق... إنني أحبك لذلك لا أتكلم عنك كيلا أسلم حبك إلى بردة الكلمات ووحشة الليل إذ ليّل وفأس الحطاب في جذع شجرة مزهرة احتفالاًَ بقدوم الربيع. ويفرد الكاتب القسم الثالث والأخير من الكتاب للكتابة الأدبية والروائية والكلمة وتأثيرها والقلم الشريف متوقفاً عند رواية« الشراع والعاصفة» وسرديتها التي تتصف مع المضمون، ودور المثقف في أن يطرح القضايا طرحاً صحيحاً، والثقافة حين يجب أن تكون رغبة أولاً تكون، والمثقفون العرب الذين قاوموا بالكلمة ومالانوا ولا استكانوا. ويتطرق إلى المعرفة والواقعية والرواية ويتحدث عن بعض الكتاب والشعراء والأدباء منهم من قضى وآخرون لا يزالون على قيد الحياة وهم: محمد الماغوط ونزار وإلياس أبو شبقة وسعيد عقل وأبو حيان التوحيدي والفكر المعني. ويسرد شيئاً من ذكرياته عبر التاريخ وتحديداً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأستاذه في البناء الروائي نجيب محفوظ والرواية والمساءلة والبيئية والمحلية وعذاب البداية والنهاية والحدث والسيادة فيها. وفي مسك الختام يبقى حنا مينة يسبح في مياه الولادة الدائمة، فليس عسيراً كما يرى د. يوسف الحمادة على قارئ أدبه، أن يلاحظ أن العنصر المائي يتمتع بازدواجية يتجاوز فيها وجهي الموت والحياة، الوجه المشرق والأسود، دون أن يستطيع أحدهما كشف الآخر، فالكاتب والأديب الكبير نجح في كل الأحوال في إظهار عواصفه المرعبة وربيعه المزهر والحب الذي يشيع في عالمه وشخوصه ترتبط كلها معاً برباط وثيق والتي لها جميعها جوهر واحد هو الماء،... ماء الحياة. |
|