|
ثقافة
في دمشق.. أرى لغتي كلها على حبة القمح, مكتوبة بإبرة أنثى ينقحها.. حجر الرافدين, في دمشق.. تسير السماء على الطرق القديمة.. حافية حافية, فما حاجة الشعراء إلى الوحي و الوزن و القافية.
هذه القصيدة هي شمعة حب قدمها الشاعر محمود درويش ذات يوم إلى دمشق التي أحبها وعشقها كما كلّ من دخلها من الشعراء.. وعندما نقف هذه الأيام عند ذكرى رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش شاعر الكلمة والموقف, شاعر المقاومة, تحضر دمشق.. التي قال عنها في إحدى قصائده: اغتسلي يا دمشق بلوني ليولد في الزمن العربي نهار أحاصركم: قاتلا أو قتيل و أسألكم.. شاهدا أو شهيد متى تفرجون عن النهر حتى أعود إلى الماء أزرق أخضر.. أحمر أصفر أو أي لون يحدده النهر إنّي خرجت من الصيف و السيف إّني خرجت من المهد و اللحد نامت خيولي على شجر الذكريات و نمت على وتر المعجزات ارتدتني يداك نشيدا إذا أنزلوه على جبل كان سورة «ينتصرون».. دمشق.. ارتدتني يداك دمشق ارتديت يديك كأن الخريطة صوت يفرخ في الصخر نادى و حركني ثم نادى..و فجرني ثم نادى.. و قطرّني كالرخام المذاب ونادى كأن الخريطة أنثى مقدسة فجّرتني بكارتها فانفجرت.. دفاعاً عن السر و الصخر كوني دمشق فلا يعبرون ! مكان وتاريخ الولادة قرية البروة الجليل فلسطين 1941.. من هنا من هذا المكان الجليلي ولد محمود درويش - كما يقول - من لغته تدريجياً، ولم يكمل ولادته بعد، إذ إن الفرد يستطيع الاطمئنان إلى جوابه الشخصي عن سؤال كان جماعياً منذ البداية، منذ بداية مأساة الاقتلاع الكبير كان هذا المكان كبيراً عليه حين كان صغيراً فيه، كان معلَماً ومعلّماً.. من تلك الأرض وذاك المكان أخذته الحياة إلى أسئلته الأولى وإلى اختياراته الأولى، منه أخذ إلى زنزانته الأولى.. إلى امتحان حريته الأولى، ومنه ذهب إلى قصائده الأولى التي أخذته وما زالت، إلى عذاب غربة لا شفاء منها، مهما اطمأن الشعر إلى قدرته على تثبيت المكان في اللغة وإلى تشييد منطقة حرة في أعلى المكان. البيت والطريق من الجليل بدأ درويش أول الطريق إلى وضع الهاجس الشخصي والسؤال الذاتي في مكانه من السؤال العام، واتضح الوعي الأول بالتلاحم التلقائي بين الذاكرة الجمعية والذكرى الشخصية حين كانت قريته تحمل من الإشارات والمعاني أكثر من مساحتها الجغرافية، لم يتعلم من المدرسة بقدر ما تعلم من محيطها، من الصراع الملتبس الاسم على هوية المكان وعلى هوية الكائن، من غاب منه ومن حضر، من وقف مثله بين المنزلتين حاضراً غائباً.. حينها سئل عاشق فلسطين من أنت؟ فأجاب: أنا ابن هذه الأرض وابن تاريخها، لولا إلحاح الاقتلاع المدجج بالسلاح وبالأسطورة على الزجّ بنا في معركة الصراع على شرعية الوجود، وجودنا إذ كان يقترح علينا تبني رواية تاريخ آخر، يبدأ من الأسطورة ولا ينتهي إلا بتفريغ التاريخ من محتوياته ومنا، إذ لم يكن لتاريخ هذه الأرض إلا انتظار امتلائها بالأمس الآخر الأبدي. عندما سُئل في إحدى حواراته كيف تولد القصيدة لدى درويش وكيف تنتهي؟ قال: تولد عبر الإيقاع, أكتب سطراً أولاً ثم تتدفق القصيدة, هكذا أكتبها ولكن عندما أجري عليها تعديلات أو تجري هي تعديلات على نفسها، تصبح قصيدة أخرى, كثيرون من أصدقائي النقاد يحاولون الحصول على مسوّداتي الشعرية. وأقول لهم أنني أتلفها فوراً لأن هناك فضائح وأسراراً، فما من علاقة بتاتاً بين النص الأول والنص الأخير في أحيان, ولعل تغيير سطر شعري قد يغير كل بناء القصيدة فيخضع بناؤها لمحاولة ترميم وبناء جديدين. ويضيف بأن كل تخطيط لقصيدة هو عمل فكري واعٍ، وإذا ظهرت ملامحه تتحول علاقة إطراد متبادل, على الفكر والفلسفة والمعارف كلها أن تعبّر عن نفسها في الشعر عبر الحواس، عليها أن تنصهر في الحواس وإلا تحولت إلى مقولات. أما حول قصيدة النثرفيقول: كتبت الكثير من النثر لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع, أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسميه نثراً,ولكن لم أُولِ النثر الأهمية التي يستحقها،. علماً أنني من شديدي الانحياز إلى الكتابة النثرية, والنثر لا يقل أهمية عن الشعر, بل على العكس، قد يكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من النثر, قلت وأقول دائماً أن من الانجازات الشعرية المهمة في العالم العربي بروز قصيدة النثر، أي تأسيس طريقة كتابة مغايرة للشعر التقليدي والحداثة التقليدية رحل محمود درويش دون أن يرحل, فهو صاحب القلب الذي كان بنبضه يكرر أن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة». لن ننساك.. وفي كل عام سنكتب عنك.. فأنت صاحب الصوت الجريءوالقلم الذي لم تكسره عاتيات الزمن.. أنت مَن حفركلماته على صخرة الحياة حروفا في الوطنية, وحب الوطن والإنسان. |
|