تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


من دفتر الذكريات..بسام العسلي وصوت راقية إبراهيم

ثقافة
الثلاثاء 16-2-2010م
بقلم الدكتور: إحسان هندي

بسام العسلي -لمن لا يعرفه من القراء- ضابط سابق في الجيش العربي السوري. كان واحداً من خمسة ضباط أنشؤوا سلاح المظليين في سورية وكان أحد ضباط المفرزة العسكرية التي أرسلتها الجمهورية العربية المتحدة إلى دولة الكونغو في زمن الوحدة بين مصر وسورية (1958-1961) ثم معاوناً للملحق العسكري في لندن.

ولا تكفي هذه المعلومات إذا لم أقل إن بسام العسلي كان زميلي المقرب والحبيب طيلة ثلاث سنوات: سنتان في الكلية العسكرية بمدينة حمص وسنة في مدينة (بو PAU) الفرنسية، حيث اتبعنا معاً دورة مظلي ومدرب مظلي عام 1953.‏

وخلال إقامتنا في فرنسا ذلك العام لم نسكن معاً في شقة واحدة وذلك لكي يضطر كل منا للاحتكاك بعدد أكبر من الفرنسيين ونتعلم اللغة الفرنسية بشكل أفضل ولكننا كنا نلتقي كل يوم في معسكر اسمه «آسترا» لكي نتلقى التدريب على القفز بالمظلات، كما كنا نجتمع بعد ظهر يوم السبت وطيلة يوم الأحد من كل أسبوع.‏

لم يكن بسام مغرماً بالأغاني الأجنبية مثلي ولكنه كان يحفظ ويردد الأغاني العربية وخاصة أغاني المطرب محمد عبد الوهاب.‏

ومن أغاني هذا المطرب كان يحب بشكل خاص أغاني فيلم «رصاصة في القلب» الذي مثله عبد الوهاب مع راقية إبراهيم عام 1944.‏

ولا أدري لماذا كان بسام يحب حوارية «حكيم عيون أفهم بالعين» وخاصة ذلك المقطع الذي كان عبد الوهاب يستنطق فيه راقية عما إذا كانت تستلطف شاباً معيناً وعندما تجيبه بالإيجاب يتابع تحرياته بسؤالها:‏

والشخص ده موجود هنا؟ وترد راقية بخبث: بالطبع لأ!.‏

وتنطلق هنا «في الأغنية» موسيقا مزمجرة للدلالة على هول الصدمة العاطفية التي شعر بها عبد الوهاب بعد سماعه رد راقية.‏

«ترا لا لا لم»!.‏

كنت أسمع هذه الأغنية أسبوعياً- إذا لم أقل يومياً من بسام وكان دوماً يختمها بهذه اللازمة:‏

«ترا لا لا لم» ثم ينفجر ضاحكاً.‏

وكان أحياناً يكلفني بأداء دور راقية إبراهيم في الأغنية فيبدأ هو بأول الأغنية.‏

«حكيم عيون أفهم بالعين وأفهم كمان برموش العين»، إلى أن يقول: «علشان تحرّمي تاكلي غلاس وتحرقي في قلوب الناس» فأسأله أنا مقلداً -ما أمكن- صوت راقية إبراهيم:‏

«حكيم روحاني حضرتك؟».‏

وشتان ما بين الصوتين لأن راقية كانت «تطرب دون حاجة لأن تغني» كما قال بعض المعجبين بصوتها وأما صوتي فكان لسد الحاجة فقط.‏

وكانت هذه الوصلة الغنائية تنتهي دوماً بصوت (الموسيقا التصويرية) التي تنطلق من حنجرة بسام «ترا لا لا لم» ثم ينفجر بالضحك.‏

عدنا إلى سورية في أيلول 1953 وخدمنا معاً في سلاح المظليين الناشئ في دمشق وفي حلب ثم باعدت ظروف الخدمة العسكرية بيننا.‏

وأذكر عندما كنا في حلب أن بسام أدى خلال مهرجان للطيران والقفز بالمظلات قفزة حرة يصح أن تسجل في أرقام غينيس، حيث لم يفتح مظلته إلا على ارتفاع 100م عن الأرض ولم يتكامل انفتاح المظلة إلا على ارتفاع 50م فقط، ولو تأخر في فتح مظلته ثانيتين لا أكثر لكان ارتطم بالأرض (لا قدر الله).‏

ولم تكن تلك هي المخاطرة الوحيدة التي تعرض لها بسام في حياته أثناء عمله في سلاح المظليين، حيث قيل لي -والعهدة على الراوي- إنه أثناء عمله ضمن المفرزة التي أرسلتها دولة الجمهورية العربية المتحدة إلى الكونغو قد سقط في مظلته فوق إحدى البحيرات نتيجة لخطأ من قائد الطائرة في تحديد منطقة القفز.‏

وعندما انتهى عهد الوحدة وبدأ عهد الانفصال في 28 أيلول 1961 كان بسام -على حد علمي الشخصي المتواضع- يعمل كمعاون للملحق العسكري في لندن وقد اغتنم هذه الفرصة لإغناء اطلاعه ومطالعاته في المجالات العسكرية والاستراتيجية بحيث أصبح واحداً من ألمع المنظرين العسكريين في الوطن العربي‏

وبعد مرور أيام عهد الانفصال الأولى بدأت أجهزة الإعلام المرئي والمسموع (التلفزة والإذاعة) تعود إلى برامجها العادية شيئاً فشيئاً وبدأنا نسمع الأغاني العاطفية إلى جانب الأغاني الحماسية والوطنية ولفت نظري -أو بالأحرى سمعي- إذاعة أغنية «حكيم عيون أفهم بالعين» لعبد الوهاب وراقية إبراهيم مرة واحدة في اليوم على الأقل من التلفزيون السوري أو الإذاعة السورية مع نهايتها المعتادة حين يقول عبد الوهاب: «والشخص ده موجود هنا»؟ وترد راقية بصوتها المسكر: «بالطبع لا» ثم تأتي تلك الموسيقا المدوية «ترا لا لا لم».‏

وبعد يومين أو ثلاثة من هذا الاستماع الإجباري لأغنية «فيلم رصاصة في القلب» قلت في نفسي ثم لزوجتي:‏

- يظهر أن مدير التلفزيون والإذاعة الجديد من الأصدقاء المقربين لزميلي العزير بسام العسلي.‏

وفي مساء اليوم نفسه قرأ المذيع توجيهاً سياسياً معيناً حول بعض الأمور الواجب مراعاتها من قبل العاملين في جهازي الإذاعة والتلفزيون ولم أفاجأ كثيراً حينما سمعت اسم من أمر بإذاعة التوجيه وكان: المكلف بالإشراف على إدارة الإذاعة والتلفزيون المقدم الركن بسام العسلي.‏

- بقي أن أقول في نهاية هذه الكلمة إني أحب كل الحب بسام العسلي وأذكر أيامنا الخوالي في معسكري «إيدرون» و «آسترا» في فرنسا ثم في مطاري «المزة» و «رسم العبود» في سورية وأدعو الله أن يديم عليه صحته الغالية ويبقيه ذخراً للوطن.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية